
حين يتأمل الإنسان الفارق الشاسع بين الدول الغنية وتلك التي ترزح تحت وطأة الفقر، لا بد أن يتوقف طويلًا متأمّلًا مكامن التباين وجذوره، فلا يكفي أن يُعزى هذا الفارق إلى التاريخ ولا إلى الإرث الحضاري. فدول كاليونان والهند ومصر، التي تنتمي إلى أعرق الحضارات البشرية، ما تزال تعاني اقتصاديًا وتتعثّر تنمويًا في بعض المجالات، رغم ما تمتلكه من رصيد ثقافي وتاريخي يفوق آلاف السنين. وعلى النقيض منها، تقف دول حديثة النشأة ككندا وأستراليا ونيوزيلندا وسنغافورة لم تتجاوز أعمارها السياسية قرنًا ونصف، وقد بلغت من الرقي والرفاه حدًّا جعلها في مصاف أكثر الدول تطورًا وغنى واستقرارًا، إذا المسألة ليس لها علاقة بعمر الدولة أو عراقتها.
لم يكن الفارق في الثروات الطبيعية هو الفيصل كذلك، فاليابان، مثلًا، تضيق مساحتها، وتتكون أراضيها في معظمها من جبال لا تصلح للزراعة أو الرعي، ولا تمتلك موارد نفطية أو معدنية كبرى، ومع ذلك أصبحت من كبريات القوى الاقتصادية في العالم، وأضحت مصنعًا عملاقًا عائمًا في البحر يُغذي الأسواق العالمية بكل صنوف الابتكار والدقة. وسويسرا، الدولة الصغيرة المحاطة بالجبال، لا تنتج الكاكاو ولا تعرف الزراعة إلا لأشهر معدودة في العام، لكنها تصنع أجود أنواع الشوكولاتة، وتصدر منتجات الألبان الفاخرة إلى كل ركن من أركان الأرض، فضلاً عن كونها مرجعًا عالميًا في الانضباط، والنظام، والإنتاج المتقن، ويشهد على ذلك ما تُنتجه من ساعات سويسرية بقطع من الحديد ليس لها قيمه تُباع الواحدة منها بمئات الآلاف من الدولارات.
المسألة، إذن، لا تتعلق بجغرافيا ولا بتاريخ، ولا بموارد، ولا بعرق أو لون أو قدرة عقلية، فكم من مهاجر وُصف في بلاده بالتقاعس أو العجز، فإذا ما وطأت قدماه أرضًا مختلفة من حيث القانون والنظام والفرص، تحوّل إلى عنصر فاعل منتج، يحقق النجاح، ويمنح من حوله طاقة متجددة من الكد والانضباط، وهذا واضح في دور السودانيين في إعمار وبناء دول الخليج، وهذا بشهادتهم. الفارق الحقيقي يتجسّد في السلوك الجمعي، وفي الثقافة التراكمية، وفي القيم التي تُغرس في الفرد منذ نعومة أظفاره. وأذكر أني كنت رئيسًا لبعض أنشطة العمل العام الخاصة بالسودانيين في العالم، فعندما نطلب من الشخص أن يساهم في بناء مشروع ما أو يدفع رسومًا أو مساهمة مالية لبناء مشروع ما أو المساهمة في نشاط، كنا نتعب جدًا لجمعها حتى لو كان دولارًا واحدًا، لكن نفس الشخص يمكن أن يدعوك في مطعم ويصرف مئتي دولار في جلسة كرم حاتمي من تلقاء نفسه . فنحن على المستوى الشخصي كرماء جدًا، لكن على المستوى العام ضنينون جدًا، وهذا له أسبابه التراكمية.
في المجتمعات المتقدمة، نجد أن القيم ليست حبرًا على ورق، بل ممارسة يومية متجذّرة في الضمير الجمعي؛ الصدق، والأمانة، واحترام القانون، والدقة، وإتقان العمل، والالتزام بالوقت، والإحساس العميق بالمسؤولية تجاه الفرد والمجتمع، كل هذه مبادئ لا تُفرض بالزجر، بل تنساب في سلوك الناس كما تنساب الدماء في العروق، وتُمارس دون أن تُشهر في وجه أحد، لأنها صارت جزءًا من طبيعة الإنسان ووجدانه وتربيته.
وفي المقابل، حين نُلقي نظرة واقعية على المشهد السوداني، ندرك أن المأساة أعمق من أزمة حكم أو تعاقب حكومات، بل هي أزمة وعي، وأزمة ادراك بإمكانياتنا . السودان ليس بلدًا فقيرًا، بل هو من أغنى بلدان الأرض، تنوّعًا في الموارد، وثراءً في الجغرافيا، وسخاءً في المناخ. يكفي السودان فخرًا أن نهر النيل، أطول أنهار العالم، يشق أراضيه من الجنوب إلى الشمال، ويغمر سهوله الخصبة بمياهه الدافقة، في منظر يعيد إلى الأذهان صورة نهر المسيسيبي في الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كان الأخير يسير من الشمال إلى الجنوب، فإن النيل ينساب شمالًا ليمنح الحياة والزرع، ومع ذلك، ما يزال العطش حاضرًا في مدن السودان وقراه، وكأن النيل قد جفّ.
السودان يمتلك أمطارًا موسمية تُروِي الأرض وتنعشها، ويزدان بتعدد فصول الزراعة، مما يتيح دورة زراعية ثرية بالأنواع المختلفة من المحاصيل والمواسم. ففي الغرب، تتربع المحاصيل الغابية والحبوب الزيتية، وتنتج منطقة كردفان والنهود مزيجًا من الزراعة والثروة الحيوانية التي تُعد من الأعظم في القارة. وفي النيل الأبيض ودارفور وكردفان، يزدهر إنتاج الصمغ العربي، والقطن، والسمسم، كمحاصيل نقدية تُصدر إلى الخارج وتُدر عائدات ضخمة، إن أُحسن استثمارها. أما الذهب، فقد أطلّ على الاقتصاد السوداني في العقود الأخيرة، لكن الحقيقة أنه ليس جديدًا على هذه الأرض، فالسودان، أو أرض “النوبة”، تعني بلغات قديمة “أرض الذهب”، ويُقال إن اسم مدينة القولد مشتق من الكلمة الإنجليزية Gold ذاتها محرفة عن هذا الأصل. كذلك تفيض البلاد بالموالح والفواكه، وتحتضن معادن لا حصر لها، فضلًا عن ثروة حيوانية متجددة، ما بين الأبقار والإبل والضأن والماعز، تنتشر في بواديه ومراعيه الغنية.
كل هذه النعم، وكل هذا الغنى، لم يشفع لنا في أن نكون دولة مزدهرة مستقرة. ففي الوقت الذي تسير فيه الأمم نحو التقدم بهدوء وجدية، ننشغل نحن بالصراعات، والحروب، والانقسامات، ونهدر الطاقات في معارك لا تنتهي، بينما تتآكل البنى، وتضمحل القيم، وتخبو الآمال. النظافة غائبة عن الطرقات، والصدق مفقود في المؤسسات، والعمل يعتريه الإهمال والتسيب، وكأن الوطن لم يعد يعني شيئًا في وجدان الكثيرين. نرى القاذورات تتراكم في شوارع المدن الكبرى، والمواطنون يمرون من حولها كأنما هي جزء من المشهد الطبيعي، بل ويزيدون عليها من أوساخهم، دون أن يتوقف أحد ليسأل: إلى أين نمضي بهذا السلوك؟
المشكلة لا تكمن في القوانين، ولا في غياب الموارد، ولا في المؤامرات الخارجية، بل فينا نحن، في طريقة تفكيرنا، في سلوكياتنا اليومية، في علاقتنا بالوطن، وفي مستوى وعينا الجماعي. نحن لا نفتقر إلى المياه، ولا إلى الأرض، ولا إلى السماء، بل نفتقر إلى الصدق، والالتزام، والضمير. نفتقر إلى الحس الوطني الذي يجعل المرء يخجل أن يُقصّر، أو أن يغش، أو أن يعتدي على المال العام. نفتقر إلى التربية التي تُخرّج جيلًا يحترم النظام، ويؤمن بأن بناء الأوطان لا يأتي بالخطب، وإنما بالكد والعمل والإخلاص والتضحية، وهذه الحرب فرصة لنا لنعرف كيف يحافظ إنسان الدول التي لجأ السودانيون إليها، في إثيوبيا ومصر ويوغندا والسعودية وقطر والإمارات، تجد أن إنسان تلك الدول يحافظ على بلده وعلى البنى التحتية وعلى تراثها وتاريخها، وكم رأيت سودانيين يصطفون ليلتقطوا صورة أمام بناية جميلة أو صرح عظيم، ألم نسأل أنفسنا كيف حافظ هؤلاء الناس على بلدانهم؟ علينا أن نحب وطننا لنحافظ عليه، ولكي نحب وطننا علينا أن نحب بعضنا بعضًا.
لن نخرج من هذا النفق بمجرد تغيير الحكومات، ولا بتوقيع اتفاقيات ، وإنما نخرج حين نعيد بناء الإنسان السوداني من الداخل، ونزرع فيه القيم، ونحيي فيه روح المسؤولية، ونغرس فيه الأمل، ونوقظ فيه حب هذا الوطن الجريح. نحتاج إلى ثورة في الوعي، تبدأ من المنزل، وتترسخ في المدارس، وتُمارس في المؤسسات، وتُجسّد في القيادة. نحتاج إلى إعلام يُعلّم لا يُضلّل، وإلى مسجد يُهذّب لا يُفرّق، وإلى معلم يؤدّب قبل أن يُعلّم. نحتاج إلى مشروع وطني أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا أو اقتصاديًا.
ولأن السودان يستحق، ولأننا نؤمن ااأنه لا يزال ممكنًا أن ينهض، فإننا نُطلق هذا النداء من القلب، لكل غيور على هذا البلد، أن نُراجع ذواتنا، ونُصحّح سلوكنا، ونُعيد الاعتبار لقيمنا. أن نبدأ بأنفسنا، فلا نرمي قاذورة في شارع، ولا نسرق دقيقة من وقت العمل، ولا نقبل ظلمًا، ولا نُجامل على حساب الوطن. أن نكون القدوة، لا الصوت المرتفع. أن نصمت عن المهاترات، ونُقبل على العمل و نوقف الاقتتال .
فلنُشعل شموع الوعي من بيوتنا، ولننقلها إلى من حولنا، ولنجعلها تنتشر، لعلّها تُضيء هذا الظلام. فلنصنع الوعي معًا، لا لأننا مثاليون، بل لأننا واقعيون نؤمن أن الشعوب لا تنهض إلا بسواعدها، وأخلاقها، وأحلامه . السودان لا تنقصه الثروات، بل تنقصه النيات الصادقة. السودان لا يحتاج إلى المزيد من الصراخ و القتال ، بل إلى قليل من الصمت والعمل.