أخر الأخبار

دكتور صلاح الدعاك يكتب : حين ضاقت الأرض، اتسعت الأرحام

في قلب العاصفة، حين تنكسر الأشياء ويضيع المعنى، لا يبقى للإنسان سوى حبالٍ خفيةٍ تشدّه للحياة، تشدّه لأناسٍ يعرفون وجهه من قبل أن يعرف اسمه. أولئك الذين يذكرونه حين ينساه العالم، ويحضنونه حين يخذله الزمان. إنها صلة الرحم، الوتر المقدّس الممتد من رحم الأرض إلى عرش السماء، والذي لا يقطعه إلا من قُطعت عنه الرحمة، ولا يحافظ عليه إلا من بقي قلبه حيًّا في زمن الموت الكبير.
في السودان، لم تكن الحرب كسائر الحروب التي يقرأها الناس في الصحف، أو يشاهدونها في نشرات الأخبار العابرة. لم تكن صواريخ على أطراف المدن، بل كانت نيرانًا دخلت غرف النوم، وعبثت بخزائن النساء، ودفاتر الذكريات، وشرف الرجال. كانت المعركة في قلب البيت، والعدو في أقرب نقطة من الروح. فقد الناس فيها كل شيء: من البيوت إلى الأمان، من المال إلى الكرامة، حتى كأنّهم خُلعوا من تاريخهم فجأة، وأُلقي بهم في فراغ لا ملامح له.
تدافعت الجموع مذعورة من العاصمة، ومن المدن الكبرى، ومن بين الأنقاض، فأصبح النزوح زحفًا بشريًا هائلًا، لم يشهده تاريخ السودان ولا حاضر المنطقة، حتى تجاوز عدد النازحين أحد عشر مليون إنسان، خرج بعضهم عبر الحدود، بينما فرّ معظمهم إلى قرى الداخل ومدنه المنسية. وكان من الطبيعي، بل من المتوقع، أن تغصّ الأرض بالمعسكرات، وأن تُملأ الأحياء بالخيام، وأن تُصبح الخرائط موشومة بالبؤس، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، أو حدث بأقل مما قدّره العالم.
وقف موظفو الإغاثة الدولية، وعيونهم مثقلة بالدهشة، يتساءلون في صمتٍ حائر: “أين ذهب كل هؤلاء؟ كيف يعيشون؟ ومن يحتضنهم؟”. وكانت الإجابة لا تُدوَّن في تقارير الأمم المتحدة، ولا تُرصد عبر الأقمار الصناعية، بل كانت تهمس بها القرى والأزقة والأسطح الطينية وأهازيج الغبش: لقد احتضنتهم أرحامهم.
نعم، كانت صلة الرحم هي الخيمة التي لم تُنصب، والوسادة التي لم تُشتر، والسند الذي لم يُسجل في وثائق المانحين. كانت الجدة التي استقبلت حفيدها المطرود، والأخ الذي اقتسم لقيماته القليلة، والأخت التي فتحت بابها لأختها النازحة وأطفالها دون انتظار شكر. في بيت صغير في كردفان، أو راكوبة في الجزيرة، أو دار متواضعة في النيل الأبيض، كانت تُكتب أعظم ملاحم الإنسانية في زمن الجحيم.
وتجاوزت صلة الرحم حدود الجغرافيا، حين امتدت من المغتربين في المنافي إلى أهلهم في الوطن المنكوب. جاء الدعم في صمت، على هيئة تحويلات صغيرة لكنها عظيمة في معناها، كأنها نبضات قلبٍ بعيدٍ ما زال يحمل السودان في شرايينه. لم يكن المال وحده ما وصل، بل كان يصل معه الدعاء، والتعاطف، والانتماء العميق. كانت هذه الصلة الممتدة عبر البحار والحدود، حبل نجاة، يُعيد بناء ما هدّمته المدافع، ويواسي من نُكبتهم الحرب.
ووسط هذا المشهد السوداني الملحمي، لا يسعنا الإنصاف إن لم نذكر تلك الأيادي التي امتدت من الخارج، من منظمات دولية وأممية، ووكالات إغاثة شقيقة وصديقة، ودولٍ منحت وأرسلت وأبقت على شعلة الأمل مشتعلة في الليالي السوداء. كان لجهود الأمم المتحدة ووكالاتها، والمنظمات الإنسانية العاملة، أثر مقدَّر، لا سيما في مناطق النزوح الواسع التي أُنهك فيها الناس حدّ الصمت. كما وقفت بعض الدول موقفًا إنسانيًا كريمًا، فتحت حدودها للنازحين، وقدّمت ما استطاعت من الغذاء والدواء والمأوى، وكأنها تقول للسوداني: لست وحدك.
هذا التآزر الإنساني، وإن كان محدودًا أمام حجم الكارثة، إلا أنه دلّ على أن الضمير العالمي لم يمت بعد، وأن الأخوّة حين تُترجم إلى أفعال، فإنها تبني ما تعجز عنه المؤتمرات. لذلك فإن الشكر يظل موصولًا، بإكبار وامتنان، لكل جهةٍ دولية، أو دولةٍ مانحة، أو منظمة إنسانية، شاركت أهل السودان عبء هذه المحنة غير المسبوقة.
لكن البطولة الكبرى، كانت وما زالت، للناس العاديين. الذين لا يحملون شعارات ولا يظهرون في عدسات الإعلام، بل يضعون يدهم في يد قريبهم، ويتقاسمون معهم الماء والظل والستر. في هذا الامتحان الجليل، لم تكن البنادق هي الأشد فتكًا، بل كانت القطيعة هي الجرح الأعمق، ولم تكن صالات الإغاثة هي الأكرم، بل كانت البيوت التي بلا كهرباء ولا ماء، والتي فتحت أبوابها واستبشرت، هي الأعلى قدرًا، والأسمى مقامًا. كانت رحم السودان العظيم، هي المنظمة الأم، والمنحة الكبرى، والملاذ الذي لم يُدرج في قوائم المانحين، لكنه كان اليد التي رفعت ملايين المنكوبين من السقوط.
فلتُعلّق الميدالية الذهبية على صدر صلة الرحم ، وعلى جبين النساء والرجال الذين حملوا الوطن في صدورهم قبل أن تحملهم الأقدار على دروب النزوح. وليُكتب في دفتر التاريخ، أن صلة الرحم، في زمن الانهيار، كانت المعجزة الوحيدة التي لم تُفسّر بعد، وكانت القوة الوحيدة التي سبقت كل خطط العالم وموازناته.
ومن لم يتّعظ الآن، فمتى؟ ومن لم يَصل رحمه اليوم، فمتى؟
من كان يظن أنه في غنًى عن أهله، عرف أنه كان واهِمًا.
ومن ظنّ أن القطيعة رفعة، علم أنها ذلّ، حين لا يجد مأوى في يوم يحتاج فيه مجرد وسادة، أو لقمة، أو حتى نظرة حانية.
وفي زمنٍ تكسّرت فيه كل الأسوار، بقيت الرحم سورًا من نور، وملاذًا من رحمة، ووصلةً إلى الله، لا تقطعها حرب، ولا تفنيها الأيام.
فاختر لنفسك الآن، قبل أن تُجبرك الأيام على الاختيار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

5 − 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى