لم يكن غريبًا أن يفتتح الدكتور كامل إدريس خطابه الأخير بالصلاة على النبي ﷺ، لكن اللافت، بل المدهش لمن تأمل، أن تكون تلك الصلاة تحديدًا، هي ما يعرفها أهل التصوف بـ” *الصـلاة الناريـة* “… تلك التي لا تُقرأ للتبرك فحسب، بل للفتح، وللحفظ، ولإهلاك العدو، ودرء الشرور، حين تضيق الأرض بما رحبت ،تلك التي تتوسل إلى الله بكمالٍ لا يُدرَك، وسلامٍ لا يُقاوم، وتُطرق بها أبوابٌ لا تفتحها المفاتيح.
وفي اختياره لتلك الصلاة، لم يكن كامل إدريس يُزيّن أول خطابه، بل كان يعود إلى أصله الأول… إلى الحاضنة الروحية التي شكّلت وجدانه، قبل أن تعرفه الأمم المتحدة خبيرًا بالقانون الدولي، وقبل أن يذكره الأكاديميون كواحد من أعمدة الفكر الحقوقي في العالم .
في تلك اللحظة، لم يكن إدريس ” *الخبير الدولي* “، بل كان ” *ابن الطريقة* “…وصوتُ والدته الحاجة المجذوبة ” أمونة بت حاج حسين جمعة” في أذنه ما يزال حيًّا وهي تقول : ( *يا وليدي، صلاتك دي ما تخليها، بترد عنك بلاوي الزمن* )… ومن يومها لم يفرّط كامل في صلاته، لا في صخب جنيف، ولا في زحام السياسة الدولية، ولا في دجى هذه الحرب السودانية الشيطانية الغريبة الأطوار…”
هو ذلك السرّ الذي يراه المتصوفة روحًا حيّة تسري في القلوب، قبل أن تُكتب في كُتب ” *صلاة الفاتح لما أُغلق* “، التي يُقال إنّها نزلت من النبي ﷺ على قلب الشيخ أحمد التيجاني، لم تكن غريبة على إدريس، لأنه لم ينفصل يومًا عن هذا النبع، وإن اتّسعت آفاقه.
هكذا ظهر الرجل، بوجه لم يعتده البعض، وكأنه يقول دون أن يصرّح: ” *أنا ما انقطعت عنكم، بل كنت أستعدّ لكم… في صمت* .”
وفي هذا الظهور، بدا كامل إدريس لا كسياسي أو مفكّر يُنظّر لمشروع وطني فحسب، بل كـ”رجل صالح” يسير على هُدى، يدعو من يعرفهم ومن لا يعرفهم إلى الصبر… لا على بطء النتائج، بل على عمق الطريق.
وهنا، يستدعي العقل والوجدان معًا قصة سيدنا موسى والرجل الصالح – الخضر- ، ذاك الذي فعل أفعالًا لم تُفهم في حينها، وكان ظاهرها قاسيًا، لكن باطنها رحمة خالصة وموسى، النبي، كليم الله الكريم، تساءل باحترام، واعترض بنيّة الخير، لكنه لم يدرك آنذاك أن الحكمة لا تلبس دائمًا عباءة التفسير الفوري وهكذا يبدو السودان، بكل مكوناته، بثورته ومجده وألمه، كأنه موسى في رحلته…
يتّبع الرجل الصالح، ويُطالَب بالصبر، وألا يسأل حتى يُنبَّأ بالتأويل.
فهل يمكن أن يكون كامل إدريس هو ذلك الرجل الصالح في قصة هذا الوطن؟
ليس بمعجزة أو كرامة، بل بالحكمة، وبثقل التجربة، وبامتداد الجذور.
ذاك الذي إن خرق السفينة، فعلمه عند الله؛ وإن قتل الغلام، فلحكمة لا تُرى بالعين المجردة؛ وإن أقام الجدار، فأجره في البقاء، لا في الشرح.
ومثلما كانت رسالة إدريس دعوة إلى نورانية النبوة، كانت هذه الحرب – في وجهها الآخر – دعوة ظلامية – في حربٌ غريبة الأطوار، لا تشبه الحروب، بل تشبه الفتن الموصدة، تلك التي للشيطان فيها جولات.
قيل إنّ المليشيا استعانت بالشعوذة والسحر، ليس كحكايات تُروى، بل كممارسات وطقوس…. سحر “الفودو” تحديدًا، الآتي من قلب غرب إفريقيا، من حيث جاء المرتزقة، ومن حيث تسلّل ظنهم بأن هذا الشعب يمكن أن يُكسر بروحانية زائفة.
لقد سمعتُ – كما سمع كثيرون – روايات عن “دمى طُعنت بإبر” حيوانات ، وعن شعائر أُقيمت في بيوت الناس، وعن أدوات شيطانية تركوها خلفهم دنساً في البيوت و المرافق التي احتلوها وسكنوها – لا زال بعضها موجود ينتظر التطهير – حين ظنوا أن هذا الوطن “دمية”…
وأن “وخز الإبر” كافٍ لإسقاط “الجبال”.
لكنهم نسوا، أو جهلوا، أن هذا الشعب ليس “دمية”، وأن هذا البلد ليس “جثة تُنهب”.
وأن الله وعد ووفى:
“إنما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى”، وما جاءوا به من سحر… فالله أبطله.
كامل إدريس، في لحظةٍ خاشعة من خطابه، لم يكن يخاطب العقل فقط، بل القلب،بل الوجدان السوداني بأكمله،
وكان يهمس له من عمق التجربة:
” *اصبر عليّ، فإنك لن تستطيع معي صبرًا… إلا أن يفتح الله لك.* ”
السودان لا يحتاج فقط إلى قائد، بل إلى صاحب سرّ ، إلى من صقلته التجارب، وأحاطته الصلوات، وعلّمه الله من لدنه علمًا.
فاصبر يا سودان، ولا تُعجِّل الحصاد قبل أوانه فالعبرة بالخواتيم…
ومن قرأ ” *صلاة الفاتح” حين يضيق الأفق ويُغلق ، يعرف جيدًا كيف يُحسن الختام.*