
دكتور . عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس السويد
باحث في اداره الازمات ومكافحه الارهاب
دخل السودان عامه الثالث من حرب داخلية مدمرة، كشفت عن حجم التشوه العميق في بنية الدولة السودانية، وعبرت بوضوح عن أزمة المشروع الوطني نفسه.
فمنذ اندلاع المواجهات في أبريل 2023 بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بدا الصراع أكبر من مجرد تنافس عسكري على السلطة، بل معركة مصيرية حول طبيعة الدولة ومستقبلها: هل تظل الدولة السودانية قائمة على مؤسسات موحدة وسلطة شرعية؟ أم تسقط نهائيًا في فخ الميليشيات والسلطة المنفلتة؟
منذ نشأتها، مثّلت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” مشروعًا موازنًا للدولة الوطنية الحديثة.
فهي لم تكن امتدادًا للجيش أو الأجهزة النظامية، بل قوة قائمة على تحالفات قبلية ومصادر تمويل موازية، مرتبطة بشبكات تهريب الذهب وعلاقات إقليمية متعددة.
سعى حميدتي لتحويل الدعم السريع إلى جيش موازٍ يتحكم بمفاصل الدولة، متجاوزًا فكرة دمج القوات في مؤسسة عسكرية وطنية موحدة.
في المقابل، كشفت القوى المدنية التي قادت ثورة ديسمبر 2018 عن عجزها المبكر في تحويل الزخم الشعبي إلى مشروع سياسي مستدام.
انقسمت القوى المدنية على نفسها، وغرقت في صراعات المصالح القصيرة الأمد، حتى وجدت نفسها عاجزة عن بناء قاعدة سياسية موحدة لوقف الحرب أو تشكيل جبهة تضغط من أجل السلام.
ومع تصاعد القتال، بدت القوى المدنية معزولة عن المشهد، فاقدة للقدرة على التأثير الفعلي في ميدان النزاع أو ترتيبات الحلول السياسية.
التعقيد الإقليمي زاد من تفاقم الأزمة.
فقد وجدت قوات الدعم السريع دعمًا سياسيًا وعسكريًا من بعض الدول الإقليمية التي رأت في تفتيت الدولة السودانية فرصة لتعزيز نفوذها الاقتصادي عبر السيطرة على الموارد الطبيعية، خاصة الذهب.
هذا الدعم الخارجي ساهم في إطالة أمد الحرب، وحوّل السودان إلى ساحة صراع إقليمي بامتياز، مع غياب فاعل دولي حقيقي قادر على فرض حل سياسي شامل.
وبحسب تقارير الأمم المتحدة لعام 2025، يعيش السودان اليوم أكبر كارثة إنسانية في تاريخه الحديث، حيث نزح أكثر من 12.6 مليون شخص داخليًا وخارجيًا، ويواجه نحو 25.6 مليون سوداني خطر انعدام الأمن الغذائي، بينما توقفت أكثر من 75% من المرافق الصحية عن العمل.
وقد وصف مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، الوضع السوداني بقوله:
“السودان يعيش كارثة إنسانية صامتة لا تحظى بالاهتمام الدولي الذي تستحقه، ومصير الملايين معلق على مسار الحل السياسي.”
غير أن العام الجاري شهد تحولات ميدانية كبيرة أعادت رسم مشهد الصراع.
استعادت القوات المسلحة السودانية السيطرة على العاصمة الخرطوم، وحررت مدينة مدني في ولاية الجزيرة، وفكت الحصار عن مدينة الأبيض في شمال كردفان، بينما صمدت مدينة الفاشر في دارفور أمام محاولات الدعم السريع لاختراقها.
مع هذه الانتصارات، تراجع الدعم السريع إلى مناطق معزولة، فاقدًا للقدرة على المبادرة الهجومية، ومنهارًا أمام تصاعد الانقسامات الداخلية وتناقص الدعم الإقليمي.
وبات واضحًا أن مشروع حميدتي السياسي والعسكري قد دخل مرحلة الانهيار الفعلي، فيما تعززت فرص الجيش في فرض سيطرته على المشهد الوطني.
ومع ذلك، يواجه السودان الآن سؤالًا أكثر تعقيدًا:
كيف يتم تحويل هذا النصر العسكري إلى مشروع وطني متكامل يعيد بناء الدولة؟
التاريخ السوداني الحديث حافل بالفرص الضائعة.
من ثورة 1964، إلى انتفاضة 1985، وحتى ثورة 2018، كانت البلاد تملك دومًا فرصة لإعادة صياغة الدولة، لكنها كانت تفشل بسبب غياب الرؤية السياسية العميقة، وتغليب المصالح الضيقة على مشروع الوطن.
اليوم، السودان أمام مفترق طرق حاسم.
النصر العسكري وحده لا يكفي.
يحتاج السودان إلى عملية سياسية شاملة تعيد بناء الجيش الوطني على أسس مهنية، وتطلق مسارًا للعدالة الانتقالية، وتؤسس لدولة مدنية ديمقراطية حقيقية، تستند إلى المواطنة والعدالة وسيادة القانون.
إن التجربة الليبية بعد سقوط القذافي تمثل نموذجًا تحذيريًا صريحًا:
غياب التخطيط لبناء الدولة عقب الحسم العسكري أدى إلى تفكك ليبيا، وتحولها إلى ساحة حرب دائمة بين الميليشيات.
السودان اليوم يملك فرصة نادرة لتجنب هذا المصير.
بانتصار الجيش، وانكفاء مشروع الميليشيا، تفتح أمام السودانيين نافذة لإنقاذ دولتهم وإعادة بنائها.
لكن السؤال الكبير يبقى:
هل يستطيع السودانيون، قيادةً ونخبةً وشعبًا، تجاوز الانقسامات، والتعلم من جراحهم العميقة، والانتصار لمشروع الوطن؟
أم يعيدون تكرار أخطاء الماضي، ليدخلوا حلقة جديدة من الفوضى والدمار؟
الإجابة، بكل تأكيد، ستحدد مستقبل السودان لعقود قادمة