
د.عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس
باحث في اداره الأزمات ومكافحة الارهاب
منذ اندلاع النزاع المسلح في السودان في أبريل 2023، خضعت المؤسسة العسكرية لاختبار غير تقليدي في بيئة قتال معقدة، حضرية، وذات طابع مفتوح، تفتقر إلى الدعم المؤسسي والغطاء السياسي المنسق. ورغم الانكشاف الكبير في البنية المدنية وتراجع مؤسسات الدولة، حافظ الجيش السوداني على فاعليته كقوة نظامية، مما يدفع إلى طرح السؤال: ما الذي مكّنه من الصمود؟ المؤشرات الأولية تشير إلى أن استقرار سلسلة القيادة داخل القوات المسلحة، واستمرار فاعلية منظومة القيادة والسيطرة، كانا العنصرين الأهم في تماسك الأداء العملياتي. لم تظهر اختلالات تنظيمية في التسلسل القيادي، وبقيت الوحدات تنفذ مهامها وفق أوامر ميدانية متسلسلة، ما يعكس بقاء بنية التنظيم الداخلي فعالة.
إلى جانب ذلك، واجه الجيش تحديات لوجستية حادة، أهمها تعطل خطوط الإمداد الرئيسية ونقص الموارد التشغيلية، ورغم ذلك تمكن من تنفيذ عمليات إعادة تموضع تكتيكية وتوزيع الموارد بأسلوب مرن، ضمن ما يُعرف عسكريًا بالمرونة التشغيلية. بيئة القتال فرضت تحديات إضافية على مستوى الاشتباك الحضري، حيث اختلط المدني بالخصم، وهو ما استوجب تطبيق تكتيكات دقيقة، شملت انسحابات مرحلية وإعادة تمركز ضمن المناطق ذات الأولوية التكتيكية. وحدات سلاح المهندسين، على سبيل المثال، لعبت دورًا نوعيًا في تأمين ممرات آمنة خلف الخطوط الأمامية، وساهمت في تهيئة بنى تحتية مؤقتة لدعم التحركات القتالية. كما نفذت وحدات المشاة آليات انتشار مرن عبر مجموعات صغيرة متعددة المحاور، وهو أسلوب يتطلب مستوى عالٍ من الانضباط والسيطرة الميدانية.
في إحدى جبهات مدينة أم درمان، ظلّت وحدة مشاة صغيرة محاصَرة لخمسة أيام، دون دعم مباشر أو اتصالات مستقرة. ومع ذلك، حافظت على موقعها وفق الأوامر الميدانية، ونجحت في تأمين انسحاب مدنيين قبل وصول تعزيزات. مثل هذه الوقائع، رغم بساطتها، تختزل طبيعة الانضباط التنظيمي تحت الضغط.
القيادة الميدانية كانت حجر الزاوية في التماسك العملياتي، حيث أُعطي الضباط الميدانيون حرية اتخاذ القرار ضمن الإطار الاستراتيجي العام، فيما يُعرف عسكريًا بـ”الاستقلالية التكتيكية” (Tactical Autonomy)، وهي خاصية نادرة الوجود في جيوش تعاني من ضعف التكوين العقائدي أو البيروقراطية الثقيلة. ما ميّز الجيش السوداني أيضًا هو التماسك التنظيمي الأفقي، حيث ظلّت القطاعات تعمل بتنسيق جانبي حتى في ظل غياب التوجيه المركزي المستمر.
وعلى المستوى التنظيمي، لم تسجل المؤسسة العسكرية حالات انقسام أو تمرد على أسس جهوية أو سياسية أو قبلية، وهو ما يعزز فرضية أن العقيدة القتالية داخل الجيش السوداني ما تزال فاعلة، وتشكّل جدار الصد الأول ضد التفكك الداخلي. اللافت أن الجندي الميداني واصل أداء واجبه في ظل انعدام شبه كامل للحوافز المادية، حيث كانت الرواتب متأخرة، والظروف المعيشية متدهورة، والاستنزاف النفسي كبير. ومع ذلك، لم تُرصد حالات هروب أو انهيار جماعي، وهو ما يُفهم في إطار “أخلاقيات الواجب العسكري”؛ وهي مفاهيم لا تُكتسب في لحظة، بل تُغرس تدريجيًا عبر سنوات من التكوين النظامي. هذا الانضباط تحت الضغط هو ما منح المؤسسة العسكرية قدرة على الاستمرار، رغم تفكك باقي أجهزة الدولة.
لكن هذا الصمود لم يكن بلا كلفة. الضغط المستمر لفترات طويلة، غياب التدوير الوظيفي، والانكشاف النفسي الذي يرافق الجندي في بيئة لا تمنحه أي استقرار، كلها عوامل تترك أثرًا عميقًا على جاهزية الفرد المقاتل على المدى البعيد. هناك جنود ظلوا لأشهر دون إجازات، دون تواصل منتظم مع أسرهم، ومع تعرض دائم للتهديد. هذا التآكل المعنوي التراكمي يجب أن يُؤخذ بجدية في أي مرحلة تقييم لاحقة، لأنه إن تُرك دون معالجة، يمكن أن ينعكس على مستوى الانضباط في مراحل ما بعد الحرب.
من جانب آخر، لعب الجيش دورًا غير قتالي تمثل في تأمين مرافق مدنية، حماية مراكز طبية، وضبط النزاعات المحلية في مناطق انسحبت منها مؤسسات الدولة. هذا النوع من الدور، الذي يُعرف اصطلاحًا بـ”الوظيفة الأمنية المعززة للشرعية”، ساهم في تقوية صورة الجيش لدى قطاعات واسعة من المواطنين. فبينما كانت بعض القوى الأخرى تمارس سلوكيات فوضوية أو مناطقية، حافظ الجيش على حد أدنى من السلوك النظامي، ما جعله خيارًا أفضل في نظر كثيرين.
عند المقارنة بتجارب جيوش انهارت بعد أول صدمة، كما في ليبيا واليمن، يتضح أن الجيش السوداني حافظ على عنصرين حاسمين: وحدة القرار، وثبات العقيدة التنظيمية. ورغم محدودية الدعم، وغياب التنسيق السياسي، فإن الأداء الميداني بقي متماسكًا. هذه الخصائص هي ما ميزت لاحقًا جيوشًا تعافت من الحروب، مثل الجيش الكولومبي بعد صراعه الطويل مع المليشيات، أو الجيش العراقي ما بعد 2014. في تلك الحالات، سمح التماسك الداخلي ببناء جديد على قاعدة موجودة، لا من الصفر.
السؤال المركزي بعد كل هذا، ليس فقط كيف صمد الجيش، بل: كيف يمكن تحويل هذا الصمود إلى استقرار مؤسسي دائم؟ فالتحدي القادم ليس الحفاظ على الجاهزية القتالية فقط، بل إعادة التوازن بين ما هو عسكري وما هو مدني. أي مؤسسة خرجت من حرب طويلة تكون مشبعة بعقلية الطوارئ، وهو ما يتطلب ضبطًا مؤسسيًا حقيقيًا لضمان ألا يتحول الاستثناء إلى قاعدة.
ختامًا، فإن تجربة الجيش السوداني، بكل ما فيها من صعوبات وإنجازات، تقدم نموذجًا واقعيًا عن كيفية صمود مؤسسة وسط انهيار بيئتها. الصمود هنا ليس فقط عسكريًا، بل تنظيميًا وأخلاقيًا. وإذا أُحسن استثماره، فقد يكون حجر الأساس في إعادة بناء الدولة، لا فقط الدفاع عنها. الصمود وحده لا يكفي، ما لم يُصنّف ويُستثمر كعنصر تأسيسي لبناء دولة، لا كحالة عسكرية مؤقتة.
إن نجاح أي جيش في خوض حرب طويلة لا يُقاس فقط بالبقاء الميداني، بل بقدرته على الحفاظ على تماسكه الداخلي، وشرعيته المجتمعية، واستعداده للتحول إلى قوة تضمن الاستقرار لا أن تُديم النزاع. وإذا كانت الحرب قد فرضت على الجيش السوداني خيارات قاسية، فإن ما بعد الحرب سيفرض عليه مسؤوليات أعقد، تبدأ من إعادة التنظيم، ولا تنتهي بإعادة تعريف العلاقة مع الدولة والمجتمع