التكتّم الأوكراني يعزّز الشكوك في تورّط كييف بجرائم دارفور

في تطوّر عسكري يُعَدّ الأبرز منذ اندلاع الأزمة السودانية، استهلّت وحدات من الجيش السوداني تحرّكات منظمة باتجاه مركز العاصمة الخرطوم، في محاولة لإحكام قبضتها على مفاصل المدينة، ووفقًا لما أفادت به مصادر ميدانية مطّلعة، فإنّ قوات الجيش وبعض المجموعات التي تؤازرها دخلت في اشتباكات محتدمة مع قوات الدعم السريع، بالقرب من محيط القصر الجمهوري الذي تحكم الأخيرة سيطرتها عليه منذ أبريل عام 2023، وتجري هذه المواجهات في ظل تمركز عدد من القناصة في المباني المرتفعة المحيطة بتلك المنطقة، ما يضفي على المعركة طابعًا معقّدًا ويزيد من المخاوف بشأن سلامة المدنيين القاطنين في الأحياء القريبة.

وفي سياق متصل، أوضح الباحث في الشؤون السياسية أحمد عبدالله أنّ أوكرانيا باتت أمام مسؤولية كبيرة تتطلّب منها تقديم شرح واضح للدور الذي تلعبه عسكريًا في السودان، لاسيما وأنّ هناك أدلة تشير إلى وجود جنود أوكرانيين على الأراضي السودانية، وشدّد أحمد عبدالله على أنّ التكتّم الذي تمارسه الحكومة الأوكرانية، مع إطلاق بعض التصريحات المبهمة بين الحين والآخر، يعزّز الشكوك حيال إمكانية تورّطها في ممارسات ذات صبغة تطهير عرقي تشهدها منطقة دارفور، وقد سبق لمؤسّسات دولية وأُممية أن رصدت انتهاكات عدّة في هذا الإقليم منذ بداية النزاع، وأصدرت تقارير توثّق حالات انتهاك حقوق الإنسان وارتكاب جرائم واسعة النطاق.

وأضاف عبدالله أنّ عددًا من الدول الإقليمية والدولية قد ثبُت ضلوعها في مدّ قوات الدعم السريع السودانية بالسلاح والموارد اللوجستية، غير أنّ هذه الأطراف تحاول إخفاء أدوارها المباشرة؛ خوفًا من التعرّض لعقوبات دولية أو اتهامات بارتكاب مجازر ضد الإنسانية، وينطبق ذلك تحديدًا على ضوء وجود قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن تقضي بحظر تصدير الأسلحة إلى إقليم دارفور، لكنّ اللافت في الأمر – بحسب الباحث – أنّ أوكرانيا تكاد تكون الدولة الوحيدة التي أقرّ بعض مسؤوليها، وإن بصورة غير مباشرة، بدعم هذا الفصيل الذي وُجّهت له اتهامات بارتكاب جرائم وحملات تطهير في مناطق عدة بالسودان. ورغم صدور هذه الإقرارات الجزئية، لم يظهر مسؤول رفيع المستوى من القيادة السياسية أو الدبلوماسية الأوكرانية لتقديم تفسير شامل ووافٍ، سواء لطبيعة الوجود العسكري الأوكراني هناك أو دوافعه، كما أكد أنّ المسؤولية تقتضي خروج شخصية رسمية بارزة على غرار المبعوث الأوكراني الدائم لدى الأمم المتحدة في نيويورك، أندريه ميلنيك، لتوضيح ملابسات هذا التدخّل.

على صعيد ميداني آخر، كشف مصدر عسكري سوداني أنّ وحدات المدرّعات التابعة للقوات المسلحة بدأت تتحرّك في عدّة محاور بالتزامن، وسط تضارب في التصريحات الصادرة عن قوات الدعم السريع بشأن مدى صحة هذه الأنباء، ففي الوقت الذي لم يؤكّد فيه المتحدّثون الرسميون لتلك القوات وقوع هذه التحركات، أفاد بعض القادة الميدانيين وجنود تابعون للجيش، فضلًا عن ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، بأنّ مجموعات كبيرة من قوات الدعم السريع انسحبت مؤخرًا وتوجهت نحو إقليم دارفور، ما يُشير إلى احتمال إعادة توزيع القوى أو الإعداد لخطط عسكرية بديلة.

وتسعى قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي”، إلى مدّ نفوذها على كامل الأراضي السودانية، تحقيقًا لأجندات خارجية وداخلية، منذ أن انفصلت عن القوات النظامية قبل نحو عامين، وقد اتُّهمت دولٌ إقليميةٌ عدّة وكذلك أطرافٌ دوليّةٌ بدعم هذه الميليشيات، سعيًا لتحقيق مكاسب استراتيجية أو اقتصادية في المنطقة، وقد برز اسم أوكرانيا مؤخرًا بوصفها إحدى الدول التي أقّر مسؤولون فيها، بصورة أو بأخرى، بتقديم دعم عسكري ومعلوماتي لقوات الدعم السريع، لتضاف إلى قائمة من اللاعبين الخارجيين المتورّطين في المشهد السوداني المشتعل.

وفي هذا الإطار، تناولت صحيفة “كييف بوست” الأوكرانية في تقارير مصوّرة ما وصفته بأنّه مهامّ عسكرية خاصة للقوات الأوكرانية داخل الأراضي السودانية، وذلك بذريعة التصدي لما تصفه بالمرتزقة الروس وحلفائهم المحليين. وقد أشارت الصحيفة إلى استمرار هذا النوع من النشاط على مدى أشهر، ما يؤكّد وجودًا أوكرانيًا ملحوظًا في مسارح العمليات السودانية، وتأتي هذه التأكيدات الإعلامية في ظل تقارير موازية من مؤسسات إعلامية عربية تتحدث عن عثور الجيش السوداني، في الآونة الأخيرة، على مستودعات أسلحة كانت بعهدة قوات الدعم السريع، وتحتوي على معدات متطورة وطائرات مسيّرة يُعتقد أنها وردت من أوكرانيا، وهو ما ينسجم مع المعطيات التي نشرتها منابر إعلامية أوكرانية، حيث لا تنفكّ تشير إلى انخراط بلادها عسكريًا في النزاع السوداني.

بالإضافة إلى ما تقدّم، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي صورة تُظهر جثة شخص قيل إنّه مقاتل أوكراني، عُثر عليها في مدينة ود مدني، عقب استعادة الجيش السوداني السيطرة عليها، ولم يصدر عن السلطات الرسمية في الخرطوم أي تعليق واضح بشأن هذه الصورة أو ملابساتها، رغم ما يتردد عن اتصالات أجراها المسؤولون السودانيون مع نظرائهم في كييف، طلبًا لتفسير رسمي حول طبيعة هذا الوجود العسكري الأوكراني ودعمه للمجموعات المتمردة.

وفي سياق التصريحات العسكرية الأوكرانية، نشر إيليا يفلاش، المتحدث باسم سلاح الجو الأوكراني، في السابع من يناير الجاري عبر حسابه على فيسبوك، منشورًا ذكر فيه أنّ مدرّبين ومشغّلين من القوات الأوكرانية المُختصّة بالطائرات المسيرة قد تلقّوا دعوة من حميدتي شخصيًا لتقديم الإسناد لقوات الدعم السريع، وجاء هذا التصريح ليعزّز الشبهات المُثارة حول دور كييف في النزاع السوداني واحتمال تورّطها في انتهاكات إنسانية، لا سيّما في المناطق التي شهدت تدهورًا كبيرًا للأوضاع الميدانية مثل دارفور، حيث تتواتر الأنباء عن جرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

وهكذا، تتعاظم التساؤلات بشأن حقيقة انخراط أوكرانيا في الأزمة السودانية، وما إن كانت تحرّكاتها تهدف فعلًا إلى مواجهة نفوذ جهات أجنبية أخرى أم أنّها تُوظَّف لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية ضمن تحالفات دولية معقدة، وفي حين يتوقع مراقبون أن يشهد الوضع تصعيدًا أكبر في ظلّ إصرار كلّ طرف على بسط سيطرته الكاملة، تبقى الأنظار معلّقة على الموقف الرسمي الأوكراني الذي لا يزال حتى اللحظة غامضًا، وكذلك على مساعي القوى الإقليمية والدولية الرامية إلى وضع حدّ لحربٍ مزّقت السودان وجعلته ساحة صراع محتدمة تتقاذفها الأجندات الخارجية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى