
اتضح من مقالنا السابق أن ذلك الواقع الذي اتسم بالنظرة السطحية إلى الامور ليس قاصراً على بعض اوائل متعلمينا ومثقفينا ولكنه سمة عامة للكثيرين ممن نهلوا من قشور الثقافة الغربية منبتة الجذور الا من بعض شعيرات تواصل مع الحضارة اليونانية الرومانية التي جعلوها لنا الاصل والمنبع لكل علم ومعرفة وما عداها لا يكاد يبين رغم انهم يتناسون ان تلك العلوم والآداب والفنون ازدهرت اثناء نهضة اوربا التي بنتها على ارث الكليات العلمية في الاندلس والتي لم تجتهد هي حتى في مسمى جديد لها فاطلقت عليها ذات التسمية (College) والكلية تعني في التعليم الاسلامي الأول الدراسة الكلية، وكلمة بحق الرواية (Behaq Al –Riwaya) تحولت الى بكالوريوس وتعني حق التدريس بتخويل من آخر وهو اسلوب التعليم في الحضارة العربية الاسلامية نقله الاوربيون من الاندلس واصبحت البكالوريوس درجة علمية بجامعتي باريس وبولونيا ثم باقي دول العالم، كما ان الكثير من العلوم التي اتت بها الحضارة الاسلامية ظلت بذات مسمياتها.
اننا عندما نسقط ذلك التأسي بالغرب على الحالة السودانية اليوم نجدها امتدادا لذات التدخل الأجنبي في شئوننا الداخلية فما من بلد قريب او بعيد الا وعقد مؤتمرا بتمويل من الجهات والدوائر الغربية المنشئة والمجددة والممولة للصراع بدعوى المشاركة في اطفاءه، واذا نظرنا الى كل الجيران من حولنا وهم ليسوا بافضل حالا منا في الازمات السياسية التي وصلت حد الحروب والاقتتال لكنهم لم يعقدوا اي مؤتمر في بلد آخر بل ويرفضون حتى تدخل منظمات قارية هم يستضيونها في اراضيهيم مثل اثيوبيا التي تحتضن مقر الاتحاد الافريقي وتشارك عبره في التدخل في دول اخرى وتجعل عينه كليلة عن رؤية اي ضباب على الصعيد الاثيوبي الذي يعاني حروبات في اقاليم التقراي والامهرا والارومو امتدت تداعياتها الى دول الجوار ومن بينها السودان بتدفق العديد من اللاجئين الى اراضيه في فترات زمنية مختلفة وآخرها اغلاق معبر القلابات الحدودي بعد ان سقط في ايدي قوى مناوئة لنظام أبي أحمد علي. ومن عجب أن السودان كان ولا يزال في مسلك مناوئ لاسلوب المعاملة بالمثل وهو أسلوب معتاد ومهم جدا في الاعراف و العلاقات الدولية لا يسمح لأي معارض أن يتحدث عن مشكلته في بلاده ولو على منبر مسجد فهل هذا التزام أم هزال أم هوان.
ان الذي يتابع مؤتمرات الجهات السودانية المختلفة شديدة الارتباط بالغرب والمنفذة لاجنداته يستغرب كيف تقبل ان يصرف على زعماءها في كل تفاصيل حياتهم ثم تدعي حرصها على الوطن وسلامة اراضيه، اي وطن هذا الذي يعنون .
إن معالجة أوضاعنا وتصحيحها تتطلب اتباع تجربة تعالج كل سلبيات الماضي بالاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المجال مثل تجربة جنوب افريقيا في نظام الحقيقة والمصالحة أو استراتيجية رواندا وبورندي في محاكم غاشاشا التي شرحت ماضي تلك الدول فوضعت حلولاً ناجعة وناجحة لمشكلاتها.
بل وحتى إسرائيل التي كتب عليها الفساد في الأرض مرتين والعلو الكبير وزوالها حتمية قرآنية تهتم جدا بدراسة الماضي لتحاول فهم مستقبلها، فها هو رئيس وزراءها بنيامين نتنياهو في مذكراته التي نشرها عام ٢٠٢٢م بعنوان (بيبي ،قصتي )حض على قراءة التاريخ فقال :(إن أولئك الذين لا يفهمون الماضي لا يمكنهم فهم الحاضر أولئك الذين لا يستطيعون فهم الحاضر لن يمكنهم استشراف ما يخبئه المستقبل).