أخر الأخبار

تأملات – جمال عنقرة – نعم .. حتى المؤتمر الوطني وقحت

ذكرت في مقال سابق أن مرحلة ما بعد الحرب يجب أن يشارك فيها كل السودانيين، وقلت أنها مرحلة يجب ألا يكون فيها تفضيل لأحد، ولا عزل لأحد، وأن المشاركة تكون متاحة للجميع، ولا إستثناء لأحد، واشرت في ذلك تحديدا إلى حزب المؤتمر الوطني، وكل أحزاب ومكونات قوي إعلان الحرية والتغيير، وهذا القول الأخير استغرب له بعض القراء، ودهش منه آخرون، ويبدو أن بعض المندهشين لا تزال في اذهانهم التميمة القديمة “عدا المؤتمر الوطني” وآخرون يرون أن تأييد ومساندة قوي إعلان الحرية والتغيير للدعم السريع في حربه ضد الجيش تستوجب عزلهم من الحياة السياسية تماما، وهذا وذاك كله قول مردود.
وقبل أن نرد قول هؤلاء واولئك، لا بد أن نوضح أن المشاركة معني بها المشاركة في الحياة السياسية، وليس المشاركة في الحكومة الإنتقالية المرتقبة بعد أن تضع الحرب اوزارها، فلقد ذكرت في المقال المشار إليه أن الحكومة المنتظرة لتكملة الفترة الإنتقالية هي حكومة كفاءات وطنية فقط، ولا مجال فيها لأي محاصصة حزبية، ولا بد من التأكيد أيضا أن هذه حكومة تقوم بعد حسم المسألة العسكرية، وليست هي ما ينادي به البعض ويطلق عليه اسم حكومة تصريف أعمال يدعون لأن تقوم الآن قبل إنتهاء الحرب، ولعل الذين يدعون لذلك يستندون علي أن الحكومة القائمة الآن تشكل غيابا تاما، لا سيما بعض الوزارات المهمة، وبعض الوزراء لا ينسجم ايقاعهم مع إيقاع المرحلة، إلا أن هذا لا ينهض ليكون سببا كافيا لتشكيل حكومة الآن، ويمكن معالجة ذلك بتغيير الوزراء الذين يسجلون غيابا عن الساحة، وكذلك غير المنسجمين مع المرحلة، أما حكومة استكمال الفترة الإنتقالية فيتم تشكيلها بعد حسم كل المسائل المتعلقة بالحرب، وبكل الشؤون العسكرية، وفي مقدمتها حسم موضوع تعدد الجيوش، وتعدد القيادات، فالبلد الواحد جيشه واحد، وقيادته موحدة، فلا مكان لوجود أي قوات خارج دائرة القوات المسلحة، وتحت إمرة القائد العام، وهيئة الأركان، وهذا القول مثلما ينطبق علي قوات الدعم السريع، ينطبق كذلك علي قوات كل الحركات المسلحة.
وفي المرحلة الإنتقالية تكون المشاركة في الحياة السياسية متاحة للجميع، ولا مجال لاقصاء أي حزب سياسي تحت أي مبرر، واصلا لا يوجد مبرر موضوعي لاقصاء أي حزب سياسي، فالذين كانوا ينادون باقصاء المؤتمر الوطني والذين شاركوه في الحكم، اسقطوا ذلك عمليا باشراكهم في مشروعهم الإطاري شركاء المؤتمر الوطني حتى آخر ساعة حكم له الذين توافقوا معهم، مثل بعض الشعبيين، وموالي السيد الحسن مساعد أول الرئيس البشير حتى سقوط حكمه، وبعض منسوبي جماعة أنصار السنة المحمدية، هذا فضلا عن أنهم جميعا شاركوا المؤتمر الوطني في مرحلة من مراحل حكمه الذي امتد لثلاثين عاما، أما القول بعزل أحزاب إعلان الحرية والتغيير، وحرمانها من المشاركة السياسية في المرحلة القادمة لوقوفهم مع الدعم السريع، ودعمه في حربه ضد القوات المسلّحة، هو أيضا قول مردود. صحيح أن موقف أحزاب قحت من الحرب لم يكن موقفا موفقا، وفي تقديري الشخصي لم يكن موقفا صحيحا، ويجوز وصفه بأي وصف شائن، ولكنه ليس سببا لسلبهم حقوق المواطنة الدستورية، ولو افترضنا أن موقفهم شكل دعما مباشرا للمحاربين لجيش الدولة، فهم ليسوا أول من قاتل دولة، أو حكومة لسبب سياسي، ولقد فعلها قبل ذلك سودانيون لا يجرؤ أحد للطعن في طنيتهم، وفعلها مسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم خلفاء راشدون، ومبشرون بالجنة، ولم يزعم أحد أن الذين قاتلوا خليفة المسلمين خرجوا عن ملة الإسلام، ولم يدع أحد أن الذين حاربوا الحكومات المركزية في السودان سقطت عنهم حقوق المواطنة.
والنظام المرتجي في السودان بعد وقف الحرب لا بد أن يعالج كل أدواء العهود السابقة، والداء الأعظم في السودان، والذي كان سببا لكل ما وقع من حروب وانقلابات عسكرية، هو داء الإقصاء وعدم قبول الآخر، فلما لم يجد الجنوبيون أنفسهم في حكومة السودنة قادوا تمرد حامية توريت في أغسطس عام ١٩٥٥م، وعندما خشي حزب الأمة أن يقود تقارب الإتحاديين مع الختمية إلى تحالف سياسي يسقط حكومته في البرلمان دعا رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل الفريق إبراهيم عبود قائد الجيش لاستلام السلطة، فكان انقلاب نوفمبر ١٩٥٨م أول واد للديمقراطية في السودان وهي لا تزال وليدة تحبو، ولما استغلت بعض الأحزاب حادثة معهد المعلمين العالي وطردت نواب الحزب الشيوعي المنتخبين من البرلمان، قاد الشيوعيون انقلاب مايو ١٩٦٩م واستولوا علي الحكم كله، ولما تحالفت بعض الأحزاب السياسية وتآمرت مع بعض الدول الخارجية، وتواطأوا مع قيادات عسكرية، واخرجوا الجبهة الإسلامية القومية من الحكومة تحت تهديد الجيش عبر مذكرة ٢٠ فبراير عام ١٩٨٩م المشهورة، قلبت الجبهة الطاولة علي وجوههم جميعا في الثلاثين من يونيو عام ١٩٨٩م، واستولت علي الحكم كله، وثورة ديسمبر ٢٠١٨م التي كانت من أعظم ملاحم التلاحم الشعبي في السودان، افسدتها محاولات الإقصاء المتواصلة، وهذا أمر يحتاج وحده إلى مقال، ولكن بعد كارثة الحرب التي لم تكن تخطر علي عقل بشر، لم يعد هناك مجال لممارسة الإقصاء مرة أخري، ومعلوم أن هذه الحرب اشتعلت لغرض الإقصاء، فلا مجال لذلك بعد اليوم، فالسودان وطن للجميع، ولا بد أن يستوعب نظامه السياسي وحياته المجتمعية كل أهله وأبنائه، وتلك اهم ملامح مرحلة ما بعد الحرب التي يجب أن نعمل جميعا علي رسم لوحتها الزاهية بإذن الله تعالي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى