
الخرطوم : الحاكم نيوز
علي مر الحقب وتوالي أنظمة الحُكم في السودان بمختلف أشكالها ومرجعياتها شكلت قضية التنمية تمحوراً أسياسياً للتباعد ما بين أنظمة الحُكم “المُمسكة بزمام السلطة” وخصومها علي فترات مختلفة ، ومُضّيَها في تحقيق فعل تنموي وإدارته بصورة رشيده بما يضع مسار وإنموذج فاعل لقضية التنمية بشكل مستقل بمنأي عن التقاطعات وزعزعة الإستقرار السياسي المستمر ، فإشكالية قضية التنمية بمختلف مساقاتها وإتجاهاتها بأنها لم تكن مضمنة في أولويات إدارة دولاب الحكم ، بل ما حملته شعارات تلك الفترة من تاريخ السودان الحديث عقب خروج المستعمر “تحرير لا تعمير” لم تشمل ذهنية النخب في تلك الفترة التركيز علي وجود ثنائيات وإستراتيجيات للتحول والتمرحل التنموي من خلال وضع قضية الإستقلال و وضع تصور لإنموذج تنمية موازي يكونا في مسار واحد ، في ظل وجود إصطراع خارجي نحو السودان مما شكل ثنائية للمصالح والتهديد علي مر الحقب في تاريخ السودان.
ظل تمحور التباعد بتجاهل قضية التنمية ما قاد الي الإنتكاس والضعف والهشاشة في بنية الدولة والتبعية والإعتمادية علي المعونات والمنح والتيه المتمثل في ضياع الهوية والموروثات ما ترتب علي تزويب وتغييب لقضية التنمية بصورة شاملة ” الاقتصادية ، الإجتماعية ، الثقافية ،السياسية” بعكس ما كان مرجوء بتحقيق مؤشرات إيجابية لتنمية مستدامة لكافة الأجيال بما يضمن تحقيق لتطلعات المجتمع وأماله في بناء مستقبل آمن لكافة الأجيال ويؤسس للدولة الداعية لتحقيق السلام والعدالة والحرية المكفولة بسيادة القانون.
خّلف المأزق التاريخي لقضية التنمية في التجربة السودانية إشكالاتةً مترابطةً مع بعضها البعض بإهتزاز المرجعيات ومحاولة خلخلة وزعزعة هذه المرجعيات بين أطراف الصراع السياسي المستمر علي مختلف الحقب والي يومنا هذا ، مما خلفت وراؤها مُقعِداَت للتنمية في التجربة السودانية بظهور العراقيل وتمظهرات رجعية متشابكةً أدت الي خلل في إدارة المنظومة التنموية بالسودان علي إمتداد فترات الحُكم وبمختلف الحقب والي يومنا هذا ، بالإضافة الي عدم وجود سياسات وإجراءات ناظمة متعلقة بالتنمية وهو ما كرس لوجود ” إصطراع دائم بين المكونات الداخلية” بحيث مهد الي إنتكاسة وخلل إنموذج التنمية في التجربة السودانية نتج لعدم وجود إستقرار سياسي بين النُخَب السياسية “أحزاب” تارتةً وبين منظومات الحُكم تارتاً اخري خلال فترات وحقب مختلفة.
منذ جلاء المستعمر ظلت هنالك حالة لغياب المصالحة الوطنية وإنعدام للتوافق السياسي وإنتشاراً لثقافة الإقصاء مقرونةً بضعف البنية المجتمعية ما وضع قضية التنمية في مأزق تاريخي دائم ، علي إثره خلّف إشكالات تاريخية في التجربة السودانية متمثلة في:
• مأزق خلق تصور للتنمية المحلية وديمومتها؛ تمثل التنمية المحلية موقعاً مهماً في الدراسات الجغرافية والإجتماعية ، منذ بداية التفكير في هذه القضية بنهايات الحرب العالمية الثانية عام “١٩٤٥م” حيث تناولت التيارين ” الرأسمالي والإشتراكي” أبرزهم “هنري لوفيفر ، إرنست ماندل” حول عملية التفكير لوجود حلول لهذه المُعضلة ، وكان للفكر الكنزي دوراً بارزاً و مهماً في إيجاد صيغة لإدماج البُعدين المحلي والإقليمي في عملية التنمية ، فالتنمية المحلية تُعَنَي بإستغلال القدرات والموارد المحلية المتوفرة في النطاق المحلي من ” قرية ، حي ، مدينة ، ولاية” وتوظيفها لصالح السكان المحليين بهدف تنمية هذه المجالات إقتصادياً وإجتماعياً وبيئياً وسياسياً وثقافياً ويمثل “الفاعل المحلي مركز هذه العملية” من جانب، ودور الدولة بتوفير الشكل “البعد” القانوني والدعم المالي لتعزيز إستثمار هذه القدرات والموارد المحلية من جانب آخر ، ما أثر بصورة واضحة في وضع خارطة فعلية للتنمية المحلية وديمومتها في التجربة السودانية ، نسبة لعدم دعم الدولة لمسار التنمية المحلية وإعطاء الاولوية للمجالات المحلية وذلك بصياغة مُخَططات مستقبلية تُعنَي بالتنمية المحلية عبر تشخيص الواقع المحلي لبنية التنمية في السودان والوقوف علي إمكانات ومقدرات البيئة المحلية وحاجياتها من التنمية ، بالإضافة الي تحقيق المصالحة الشاملة بين مختلف الاحزاب والجماعات والطوائف والإثنيات لتوفير مناخ يعزز من فرص الإستقرار.
• مأزق بناء نموذج تنموي ذاتي في التجربة السودانية؛ من خلال بروز نماذج للتنمية في مختلف البلدان بإعتمادها وإرتكازها وإتكالها علي الموارد الذاتية ” طبيعية ، بشرية” واعتمادها علي طرف خارجي نسبة لعدم مقدرتها لتمويل التنمية ، عبر عقد شراكات خارجية والتعامل مع الأطراف الخارجية بإعتبارها ك”مختصة ،مَعنية” بعملية التنمية دون التبعية للطرف الخارجي وهو ما يسمي بالتبادل الإنتقائي ، بعيداً من حالة الإقتراض الدائم من الخارج ظناً أن يسهم في إيجاد حلول لمجابهة التحديات الماثلة في السودان ما مهدا الي ضعف وتراخي وهشاشة في بناء نموذج تنمية ذاتي معني بإستغلال الموارد الذاتية الوطنية خلال فترات مختلفة من تاريخ السودان.
يمكن اخذ أنموذج “شالمرز جونسون”حول تصوره للدولة التنموية التي أطرها بأنها الدولة التي ترتكز علي التنمية الإقتصادية وتعملت علي إتخاذ التدابير السياسية اللازمة لتحقيق هذا الهدف ، او تدخُل الدولة بتوجيه مسار التنمية ، وذلك بإجراء إسقاطات بإقتباس إنموذج تنمية او “إنموذج تنموي” مشابه بما يؤائم ويتؤائم مع موجودات البيئة والموارد في الحالة السودانية.
نقطة اخيرة؛
إكتسبت التنمية مكانة بارزة في الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية وأصبحت ملتقي للإهتمامات المتزايدة للدول المختلفة المتقدمة منها والنامية ، فمرجعية مفهوم التنمية تعد مفهوماً معقداً ومتشابكاً بتداخلاته وتعدد أبعاده ” الإقتصادية ، الإجتماعية ، السياسية ، الثقافية” فالتنمية تمثل عملية إنتقال الإقتصاد من مستوي أدني الي مستوي أعلي نسبياً خلال فترة زمنية محددة وفي إطار جهد مبذول بما يضمن تحقيق التقدم والرقي والحضارة والرفاه والرضا ، من خلال مقدرة الدولة وإستجابتها لمتطلبات الحاجيات الاساسية للأرض والانسان والموارد وتعزيز وبسط الحريات العامة والمحافظة عليها عبر صياغة صيغ توافقية علي أن تظل هذه الصيغة متجزرة وثابتة دون أن تحل عليها متغيرات بمجرد إحداث تغيير في نظام “منظومة” الحُكم ، فالتنمية بهذا المضمون هي تنمية إقتصادية وإجتماعية وسياسية شاملة لا تقتصر علي إحداث تغيير كمي في المعايير الإقتصادية البحته ، بل هي عملية مستمرة تقتضي إتخاذ عدداً من السياسات والخطوات المهمة وذلك من خلال إجراءات متمثلة في
– نشر الوعي بين أفراد المجتمع لأهمية التنمية وإستغلال الطاقات التنموية الكامنة في المجتمع وإشراكه إشراكاً مباشراً وفاعلاً في مختلف مراحل التنمية.
– العمل علي إيجاد المناخ والظروف الملائمة والمتطلبات الضرورية لتحقيق التنمية بما في ذلك الإستثمار في البنيات الأساسية وتذليل العقبات أمام القطاعات الإنتاجية.
– ضرورة إتخاذ سياسات وإصدار تشريعات محروسة بقوانين تشجع بقيام الإستثمار في القطاعات الإقتصادية المختلفة.
– العمل علي صياغة رؤية كلية وطنية تخاطب جزور الازمة السودانية علي مختلف ابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتساهم في تحقيق وتعزيز إستقرار يخدم الاجندة المتعلقة بالتنمية ومساراتها.