قبل عقود قليلة أيام أحلام الوحدة العربية ، كُنّا نُسمّي السودان ومِصْر وليبيا بدول المثلث الذهبي ، وكانت القيادات العربية الثورية متأثرّةً بل مُنْقَادَة وراء الرئيس المصري جمال عبدالناصر ، رحمه الله ، وكانت ثورة يوليو 1952 م ملهمة للشباب داخل الجيوش العربية ، فأخذت تنظيمات الضُبّاط الأحرار تعلن عن نفسها وتقود الإنقلابات العسْكريّة في كثير من الأقطار العربية ، وتُعادي من وصفتهم بالرجعية وممثلي الإمبريالية العالمية ، وكان لنا في السُّوُدَان من ذلك نصيب ، فقد إنقلب عدد من الضُبّاط الأحرار واليساريين على نظام الحكم في الخامس والعشرين من مايو عام 1969 م وتمّت الإطاحة بالحكومة الشرعيّة المنتخبة برئاسة السّيِّد الصادق المهدي – رحمه الله – ، وتم إعتقال قيادات الأحزاب وزُجّ بهم في السجون ، حتى أن الزعيم إسماعيل الأزهري مات شهيداً داخل سجون النظام الثوري الجديد .
في ليبيا وبعد أشهر قليلة من إنقلاب مايو ، إنقلب الضُبّاط الأحرار على نظام الملك إدريس السنوسي وأطاحوا به ليتسنّم العقيد معمر القذافي مقاعد السلطة هناك ، وإرتفعت شِعَارَاتٌ ( حرية، إشتراكية ، وحدة) مقرونة بأسماء قيادات الثورات ( ناصر ، نميري ، قذافي) في السودان ومصر وليبيا .
الوحْدوِيّون يرون أن مؤامراتٍ خارجية إستهدفت هذا المشروع الكبير ، وتُوفّي عبدالناصر ، وإنقلب نميري على الشيوعيين ، وإبتعد السادات عن المعسكر الشرقي بما يشبه الإنقلاب الجديد على سياسات عبدالناصر الخارجية ، والداخلية لاحقاً ، بينما ظلّ العقيد القذافي يحلم بالمشروع القديم .
لم تغِبْ ليبيا عن المشهد الإقليمي والعالمي أيام الثورة ضد زعيمها الراحل مُعمّر القذّافي والتي جاءت تحت مظلّة ما عُرِفَ بثورات الربيع العربي ، والتي كان يقِف من ورائها التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين ، غيّبَ الموت القذّافي وبدأت صراعات مسلحة مكشوفة على السلطة ، وإستند كل فصيل مقاتل على جهة أو حِلْف أو جماعة تسنده ،فأصبحت ليبيا ساحَةً للصراع الإقليمي ، وهو ما يؤثّر كثيراً على دول الجوار المباشر والإقليمي للدولة الليبية .
كذلك لم تَغِب ليبيا عن أولويات مصر ، وإن تراجعت أهمية ما يحدث فيها عن أولويات الأجندة السودانية ، بعكس مصر التي ظلت تؤكد على الدوام ، أنها لن تتهاون في قضيّة التدخلات الخارجية والأجنبية في ليبيا ، وتعْتبُر ذلك مهدِّداً أمنياً خطيراً ، وإن هذا الموقف لا تهاون فيه ، وإن القوانين الدوليّة تعطي مِصْرَ الحق في منع مثل هذه المهدّدات .
أكادُ أزعمُ أنني ممّنْ يعْرِفُونَ ليبيا جِيّداً بحُكْم العيش فيها لأربع سنوات حافلة ، وزيارات كثيرة قبل وبعد الثورة ، وعلاقات قوية وراسخة بِعددٍ من القيادات والنُخب فيها ، وقد زرت الكثير من مدنها وقراها وأريافها في أقاليمها الثلاثة الكبرى ، برقة وطرابلس وفزّان ، وأرى أن جِهة ما تعْمل على تقْسِيم ليبيا إلى ثلاث دُوَلٍ تقوم على أقاليمها الثلاث ، وهذا للأسف سيحدث قريباً وفق قراءتي للأوضاع هناك ، مثلما تعمل هذه الجهات على تقسيم مِصْر إلى ثلاث دُولٍ واحدةٌ للقِبط وأخرى للنوبة وثالثة للمسلمين وبقية المكوّن المجتمعي المصري ، وقد بدأ هذا المشروع الخطير بتقسيم السودان إلى دولتين بينما المساعي جارية لتنفيذ مخطط التقسيم لأكثر من دولة .
مصيبة جيلنا أنه عاش أحلام الوحدة العربية الكبرى ، وبعض أحلام الوحدة الإفريقية القائمة على سوق إفريقية مشتركة ، لكنه الآن يعيش كوابيس التفرّق والتشتّت والإنفصال .
Email : sagraljidyan@gmail.com