
في لحظة مفصلية من مسار الأزمة السودانية، قدم دولة رئيس الوزراء د. كامل إدريس أمام مجلس الأمن الدولي بنيويورك مبادرة السودان للسلام، بوصفها إطارا وطنيا شاملا يهدف إلى إرساء سلام عادل ومستدام، استنادا إلى خارطة الطريق السودانية، وبالتزامن مع الجهود الإقليمية، بما في ذلك مبادرة الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية.
ولا يمكن فصل طرح هذه المبادرة عن سياق ما يدور في كواليس اورقة المجتمع الدولي حول الحرب في السودان وسياق الحراك الدبلوماسي الإقليمي الأخير، لزيارة رئيس مجلس السيادة إلى كل من جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية، خلال الساعات التي سبقت عرض المبادرة أمام مجلس الأمن، بما يعكس مستوى من التنسيق الإقليمي الهادف إلى منع تدويل الأزمة بصورة تتقاطع مع منظور الحكومه الثابت للسلام المستدام .
ويعكس هذا السياق محاولة استباقية لإعادة التعاطي الدولي مع الحرب في السودان والحد من احتمالات فرض صيغ تسوية خارجية لا تتسق مع الرؤية الوطنية .
وفي سياق متصل قطع الطريق امام مقترح للاتحاد الاوروبي حول حماية المدنيين وطرح رؤيا متكاملة لوقف اطلاق النار في مواجهة مشروع الهدنة تحت مظلة الرباعية الذي يشرعن لواقع تقسيم السودان .
وتأتي المبادرة، كما أكد دولة رئيس الوزراء، كمبادرة سودانية خالصة، غير خاضعة لإملاءات خارجية، تعبر عن رؤية الدولة السودانية لمعالجة جذور النزاع، وتؤكد على مبدأ السيادة الوطنية في صناعة السلام المستدام. كما أن استقبال دولة رئيس الوزراء ومخاطبته لمجلس الأمن يمثل، في حد ذاته، إقرارا عمليا بشرعية الحكومة السودانية، ويسهم في حسم الجدل الدائر حول وضعها القانوني داخل أروقة المجتمع الدولي.
أبعاد المبادرة ومكامن القوة
تعكس المبادرة جملة من الرسائل الإيجابية، في مقدمتها التأكيد على أن السلام المنشود يجب أن ينبع من الداخل السوداني، وأن الدولة منفتحة على جميع المسارات التي تفضي إلى وقف الحرب، وبناء الحكم المدني، وتحقيق الانتقال الديمقراطي، والإصلاح المؤسسي، وحماية الحريات العامة، وإجراء انتخابات حرة، وترسيخ دولة القانون، إلى جانب إطلاق حوار سياسي شامل يراعي المصالح الوطنية العليا.
كما تسهم المبادرة في دحض السرديات التي تصور الدولة السودانية كطرف رافض للسلام، وتبعث برسائل طمأنة للمجتمع الدولي بشأن التزام الحكومة بخيار الحل السياسي العادل، بما يحفظ وحدة البلاد ويصون مؤسساتها.
ملاحظات وتحفظات
في المقابل، يلاحظ أن الخطاب لم يمنح أولوية كافية لتوصيف طبيعة النزاع بوصفه عدوان يستهدف الدولة السودانية ومؤسساتها، كما لم يتضمن مطالبة صريحة بتصنيف المليشيا كمنظمة إرهابية، وهو مطلب يحظى باهتمام واسع في الأوساط الدولية .
كذلك، لم يتطرق الخطاب إلى القضايا المثارة دوليا بشأن وجود عناصر مرتزقة اجنبية ، رغم ما تحظى به هذه القضية من اهتمام إعلامي وحقوقي ، وما توفر من تقارير وأدلة متداولة في المحافل الدولية وما قد تحققه من مدخل قانوني لتعزيز الموقف السوداني في المحافل الدولية تجاه الجهات الداعمة والممولة للمرتزقة وقد يفهم هذا التجنب في إطار حسابات دبلوماسية تهدف إلى تفادي التصعيد المباشر، خاصة فيما يتعلق ببعض الأطراف الإقليمية، من منظور دبلوماسي التجاهل قد يكون أبلغ بالنظر إلى التركيز على طبيعة الإحاطة المعنية بطرح رؤية متكاملة حول السلام المستدام للحكومة السودانية بدون الخوض في توصيف انتهاكات مليشيا الدعم السريع والعدوان الاماراتي الذي بات معلوما بالضرورة .
كما أن غياب مؤتمر صحفي عقب الجلسة حال دون استثمار الزخم الإعلامي الذي صاحب المبادرة ، في وقت لعبت فيه وسائل الإعلام دورا محوريا في توثيق جرائم وانتهاكات مليشيا الدعم السريع وتسليط الضوء على الجهات الممولة وتتبع مسارات الدعم والتمويل الإقليمية بما شكل عنصر ضغط مؤثرا على صناع القرار الدوليين.
الافاق المحتملة
من المحتمل أن تعيد المبادرة صياغة مسار التعاطي الدولي مع الأزمة السودانية، سواء عبر إعادة الصياغة لبعض المبادرات المطروحة سابقا متمثلة في مبادرة الرباعية والحد من فاعليتها، أو من خلال إعادة مواءمتها مع الرؤية التي طرحتها الحكومة السودانية. وعلى الأرجح توظيف بعض بنود المبادرة، وتحديدا في ما يتعلق بالمسار الإنساني ووقف إطلاق النار، بما يخدم الأجندة الدولية المتباينة تجاه الحرب في السودان في إطار صراع المطامع الدولي .
وفي جميع الأحوال، فإن المبادرة اكسبت للحكومة السودانية هامشا إضافيا للمناورة الدبلوماسية لإعادة ترتيب أولوياتها الميدانية، وتعزيز شراكاتها الإقليمية والدولية، والتأكيد على حسن النوايا تجاه مسار السلام، مع تحميل المجتمع الدولي مسؤولياته الأخلاقية والقانونية تجاه ما يجري في السودان.
وتؤكد التجربة أن الجهود الدبلوماسية تكون أكثر فاعلية عندما تسير بالتوازي مع الجهود العسكرية ومتطلبات حماية الدولة واستعادة الاستقرار على الأرض ويظل الميدان هو الفيصل في ميزان التفاوض ، وأن تماسك الجبهة الداخلية يبقى العامل الحاسم في مواجهة التحديات الخارجية.
وعليه، يمكن توصيف مبادرة حكومة الأمل للسلام بوصفها إطارا لإبداء حسن النوايا، وتأكيدا على التزام السودان الثابت بخيار السلام، مع التمسك الكامل بسيادته ووحدة أراضيه.
د/ ميادة سوار الدهب
رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي



