
لم يكن تعيين السيدة آمنة ميرغني حسن التوم محافظًا لبنك السودان مجرد قرار إداري أو تغيير روتيني في قيادة مؤسسة مالية عليا، بل يمكن وصفه بأنه تحول رمزي وتاريخي في مسار تمثيل المرأة السودانية في مواقع القرار الاقتصادي، وإشارة إلى أن مسار “التمكين الحقيقي” للمرأة بدأ يتحول من الشعارات إلى الفعل.
فهي أول امرأة تتولى قيادة البنك المركزي في تاريخ السودان الحديث، لتصبح المسؤولة الأولى عن إدارة السياسة النقدية في بلدٍ يخوض معركته الأصعب مع التضخم وانهيار العملة وتحديات إعادة الإعمار بعد حربٍ طاحنة.
وآمنة التي سارت بسيرتها ركبان الميديا أمس ليست وافدة على عالم المال والاقتصاد. فهي من خريجات جامعة الخرطوم – كلية الاقتصاد – وعملت في بنك السودان منذ عام 1986، متنقلةً بين الإدارات والملفات الحساسة، من إدارة الأسواق المالية إلى مطابع العملة، مرورًا بإدارة الموارد البشرية، التي تولتها لسنوات جعلتها على دراية كاملة بطبيعة عمل موظفي البنك المركزي وشبكة العلاقات المهنية داخله.
كما أن علاقتها الممتدة مع اتحاد المصارف السوداني من واقع اللجان المشتركة والمشروعات التنسيقية بين المؤسستين منحتها إلمامًا واسعًا بخارطة القطاع المصرفي السوداني وتحدياته المتشابكة.
هذه الرحلة المهنية الممتدة لما يقارب أربعة عقود تجعلها أكثر من مجرد رمز نسوي، بل قيادية خبيرة تفهم تفاصيل الجهاز المصرفي ومكامن قوته وضعفه من الداخل.
ومع انتشار الخبر الذي شغل المنصات وتداولته نقاشات مواقع التواصل الاجتماعي فقد عبّر عدد من مديري المصارف السودانية عن ارتياح عام لتعيينها، معتبرين أن خلفيتها المؤسسية ونهجها العملي يبعثان الثقة في إمكانية فتح صفحة جديدة من التعاون البنّاء بين البنك المركزي والجهاز المصرفي التجاري.
ورغم الترحيب الواسع بالمحافظ الجديدة، فإن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى ما قدّمه المحافظ السابق د. برعي الصديق، الذي أدار البنك في ظروف بالغة التعقيد وسط تحديات الحرب والانقسام الإداري والضغوط الاقتصادية الخانقة. فقد اجتهد في الحفاظ على استمرارية عمل البنك وتماسك بنيته المؤسسية رغم القيود، وهي تجربة تستحق التقدير كجزء من سجل الجهود الوطنية في مرحلة استثنائية.لكن تعقيد الظرف وبعض السياسات المتبعة اقتضت التغيير.
وتأتي آمنة اليوم لتبني على ذلك الإرث، محاطةً بتوقعات كبيرة، في وقتٍ تحتاج فيه البلاد إلى إدارة مصرفية رشيدة، تعيد الثقة في العملة الوطنية وتُعيد تنظيم القطاع المالي بما يخدم الاقتصاد الحقيقي.
والشاهد ان الاقتصاد السوداني ظل لسنوات طويلة، حكرًا على الرجال، رغم أن المرأة السودانية أثبتت جدارتها في مجالات المال، والتعليم، والإدارة، والإعلام، والطب منذ عقود طويلة.
وتاريخ النساء في القيادة في السودان ليس طارئًا؛ فقد عرف الوطن أسماء بارزة في مسيرة الخدمة العامة، كفاطمة عبدالمحمود، وسعاد إبراهيم، وهدى جيلاني، وغيرهن ممن مهّدن الطريق للأجيال اللاحقة. فضلا عن وجودها اليوم في كل موقع بما في ذلك السيادة. لكنّ موقع آمنة مختلف في رمزيته وحجمه، إذ يتجاوز الحدود التقليدية للتمثيل النسوي ليبلغ قمة الهرم المالي للدولة.
إنها لا تمثل نفسها فقط، بل تمثل جيلاً كاملاً من النساء السودانيات العاملات في صمت، اللاتي أثبتن أن الكفاءة لا تعرف جنسًا ولا لونًا.
المنصب الجديد ليس تكريمًا بقدر ما هو اختبار قاسٍ في ظرف اقتصادي غير مسبوق. فآمنة مطالبة اليوم ليس فقط بإدارة بنكٍ مركزي، بل بإعادة بناء الثقة في المؤسسة وفي الدولة نفسها.
نجاحها في هذه المهمة سيكون منعطفًا في تاريخ المشاركة النسوية في القرار الاقتصادي، وسيؤكد أن المرأة قادرة على إدارة الملفات الكبرى بنفس الكفاءة والحزم الذي طالما حُسب حكرًا على الرجال.
قد لا تكون آمنة ميرغني الحلّ لكل أزمات الاقتصاد، لكنها بالتأكيد إشارة قوية إلى أن التغيير ممكن، وأن البلاد التي تُنصف نساءها يمكنها أن تستعيد عافيتها من جديد.
وبين الأمل والتحدي، تبقى الأنظار شاخصة نحو آمنة…
فهل تفعلها؟