
يطلّ المولد النبوي الشريف كل عام كنسمة رحمة، تتزين به الأرواح قبل أن تتزين الساحات، وتخفق القلوب بهجةً بذكرى ميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ الرحمة المهداة والنعمة المسداة. إنه المولد، المحطة التي ما تزال تمنحنا لحظة صفاء ويقين، نعود فيها إلى السيرة العطرة نستمد من نورها ما يعيننا على دروب الحياة، فنشعر أن قسوة الدنيا تخفّ إذا لامستها نفحة ذكر أو دفقة حبّ صادق.
وما أجمل تلك الأيام المباركة حين كنّا صغارًا! كانت أيامًا لها طعم خاص، لا يشبه أي فرح آخر. نتحلّق في ليالي المولد حول مجالس الذكر، نرتل المولد التجاني تارة، والعثماني تارة أخرى، بالتناوب طيلة أيام المناسبة. الأرواح تسمو قبل الأجساد، والكلمات تتلألأ في فضاء المسجد كنجوم صغيرة لا تخبو. كان الشيخ الريّح، والدوخ، والصول محمد صالح وهو ينشد: “البراق تلألأ وجاب لي النسيم”، وأبكر دودو، ومعهم جمع كبير من مرتادي الجامع والتجار بالسوق وأعضاء لجنة المسجد في ذلك الوقت. كانوا يصنعون جوًّا روحانيًا مهيبًا، تختلط فيه رهبة التلاوة بدفء المودة، فيشعر المرء أن الدنيا كلها قد ضاقت ثم اتسعت في حضرة الذكر. وهنا تحضرني أبيات شاعرنا محمد المهدي المجذوب في رائعته ليلة المولد يا سر الليالي، واللحن الساحر للأستاذ الكابلي الذي صاغ من وحي الخلاوي والذكر نغماً فيه صفاء وسمو عجيب، لا يمكن أن يأتي به فنان لم يكن جزءًا من تلك البيئة المجبولة على الذكر والأنوار. وهذا حال معظم فناني السودان وموسيقييه، إذ خرجوا من بيوت الخلاوي والقرآن، فانعكس ذلك في لغتهم وألحانهم ومعانيهم السامية التي يتغنون بها.
كان الشيخ الريح والشيخ الدوخ من أبرز الحاضرين دائمًا. عُرفا بالتقوى والورع، وأحبهما الناس جميعًا. والدوخ على وجه الخصوص، كان رجلاً بسيطًا له دكان صغير يبيع فيه زيوت الطعام، لكن لسانه لا يفتر عن الذكر أثناء البيع والشراء. ومن أروع ما يذكر عنه أن بعض الحجاج رأوه في مكة أثناء أداء المناسك، مع أنه لم يتمكن من السفر بسبب مشكلة في الجوازات. وأصرّ أحدهم أنه رآه وتبعه في الطواف أو في عرفات – لا أذكر – حتى كاد أن يلمسه، لكنه اختفى وسط الزحام. وعندما عادوا إلى السودان قصّوا عليه ما رأوا وباركوا له الحج، فابتسم وقال: “أنا لم أبرح مكاني”. اعتبر الناس ذلك كرامة من كراماته، ثمرة إخلاصه وحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم. نسأل الله أن يتقبله ويسكنه فسيح جناته.
أما الأسواق، فكانت تزدان في أيام المولد بحلاوة المولد وعرائس السكر والسمسمية والفولية. وجوه ضاحكة وألوان زاهية تجعل المشهد لوحة بهيجة لا تُنسى. ورغم اتساع السودان وتنوّع أقاليمه، إلا أن المولد كان يوحّد الناس على ذكرٍ واحد وفرحةٍ واحدة. حتى طعم الحلاوة كان يرمز إلى حلاوة الذكر نفسه، لذة لا تشبه أي شيء آخر. ثم تأتي ليالي المولد مسك الختام، حيث تُذبح العجول والخراف، وتجتمع الأسر كبارًا وصغارًا حول موائد عامرة بالبركة والسرور، تتعانق فيها القلوب كما تتعانق الأيدي على الطعام. وحتى “فتة المولد” – ذلك الطعم البسيط – كان يحمل سحرًا خاصًا، مذاقًا يبقى عالقًا بالذاكرة، مختلفًا عن كل ما نأكله اليوم. حتى الزلابية، كان طعمها يختلف في ذلك اليوم.
تلك الأيام لم تكن مجرد مناسبات عابرة، بل كانت حالة من السمو الجمعي، لحظات يذوب فيها الفرد في الجماعة، وتلتقي فيها النفوس على نور واحد. هي أيام ما زالت حيّة في القلب، تحمل عبق الذكرى وصفاء الروح، وتعيدنا دومًا إلى الجذور الأولى حيث البساطة والصدق. وحينما شاء الله أن أعمل في الأردن، حملت معي هذا الحنين. حاولت ذات مرة أن نحيي مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، فاتصلت بالشيخ أبي موسى، إمام مسجد الكالوتي في عمّان، وكان خطيبًا مفوّهًا لا يشق له غبار، وطلبت منه أن يحيي الليلة بمناقب الرسول الكريم، فقبل. ثم اتسعت الفكرة فدعونا الشيخ محمد راتب النابلسي، فقبل بدوره. كانت ليلة رائعة، اجتمع فيها السرد القصصي بالرأي الفكري، والذكر العطر بالفكر المستنير. واتفق الجميع على أن المولد فرصة للتدارس والتفاكر حول سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم. كانت بحق من أجمل الليالي التي أقمناها في الأردن، حملت من عبق المولد ما جعلنا نشعر أننا في قلب ساحة الخليفة بأم درمان، وأن الأرواح قادرة على عبور المسافات متى ما اجتمعت على حب الحبيب.
وفي ختام هذه الذكريات، نرفع الأكفّ ضارعين إلى الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يجعل ذكرى مولد نبيه صلى الله عليه وسلم نورًا في قلوبنا، ودواءً لأحزاننا، وأن يرفع البلاء عن السودان وأهله، ويطفئ نار الحرب، ويجمع كلمتنا على السلام والرحمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.