أخر الأخبار

محمد يعقوب محمد علي يكتب : وعن رجل إسمه (السبندية) أحكي

بقلم : محمد يعقوب محمد علي

لله ما أعطى ولله ما أخذ .. فقد فرغت اليوم من كتابة سلسلة مقالات من خمس حلقات تحت عنوان :
*البروف قور.. ودراما الموت*
*(ثم ابتسم .. ثم مات).. [1-5]*
ولكني أجلت نشرها إلى حين في ظل زحمة الأسافير بنعيه وكثرة الباكين عليه .. فآثرت أن ياتي النعي متاخراً ولكن لاسيما أن أكتب اليوم عن شخصية تدعى *(حمدون هنو بكار)* المشهور والمعروف بحمدون سبندية .. او ناظر الأسافير كما يحلو لمريديه والمعجبين بشخصيته القيادية وإقدامه نحو خدمة أهله وغيرته عليهم ولعلني احدهم .

حمدون هنو بكار يعد نموذجاً مشرقاً لشباب السودان الخلص الذين يتفانون في خدمة الآخر مما جعله إن يكون أيقونة في وسط أنداده وعارفي فضله في كردفان عموما وديار المسيرية على وجه الخصوص.

حمدون هنو بكار لا يعرف انصاف الحلول ودوماً يصدح برايه جهراً ويقول كلمة الحق حتى على نفسه ويجيد أدب الإعتذار إن كان ليس من ذلك بد .. وفي ذلك سأحكي في المقال القادم .

أطلق على نفسه لقب (السبندية) تلك الآلة ذات الراس الحاد والتي تُفجر بها الأورام وكل داء خبيث .. وأيضا تسهم في إفراغ أحشاء من إنتفخت بطنه (لصيقاً) .. واللصيق نوع من الحشائش بكردفان تحبه الماشية.. ولكنها حين تسرف في أكله بشراهة تنتفخ بطونها فيأتي العلاج بالسبندية .. عُرفت في البادية بذاك الاسم واضحت كآلة علاج ضرورية وضروري وجودها في اي (فريق) من (الفرقان) حتى إذا ادلهم كرب كانت السبندية حاضرة .

حمدون هنو بكار .. نشاء وترعرع في ديار اهله حاضرة بادية المسيرية.. تقول سيرته الذاتيه أنه درس الابتدائي بمدرسة ابو بطيخ ثم البندر بالمجلد حتى الصف الرابع .. ثم أكمل الإبتدائي بأمدرمان أبوكدوك والمتوسطة بأبو كدوك ثم الثانوي بالمؤتمر الثانوية في بداية التسعينيات .. ثم جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا كلية النفط .

نال درجة الماجستير في التخطيط الاستراتيجي القومي من معهد الدراسات الإستراتيجية بجامعة امدرمان الاسلامية.

خلال الفترة من (١٩٩٢ الي ١٩٩٣) كان رئيسا لإتحاد طلاب مدرسة الموتمر الثانوية امدرمان .. وفيها برز نجمه كقائد طلابي متميز وقدوة حسنة لمن زامله وطوى سني دراسته الثانوية على عجل والتحق بكلية النفط بجامعة السودان قياديا ناضجا .. وتخصص في هندسة البترول .. وفور تخرجه إلتحق بوزارة النفط وشركاتها .. وتدرج فيها حتى أصبح رقماً لا تخطئه العين .. ولكن كل هذه المكانة الأدبية المرموقة والتاهيل الاكاديمي لم يصرفه عن بيئته ونمط حياة أهله .. فصار بصورة أو اخرى مهندسا للروابط الإجتماعية للأهل بدءً من الأسرة الصغيرة وإنتهاءً بالأسرة الكبيرة على مستوى ديار المسيرية .. فأسس مجموعة إسفيرية أطلق عليها إسم (السبندية) وجمع لها أغلب أبناء المنطقة بمختلف مكوناتهم وإنتماءاتهم وصار قائداً لمركب هذه المجموعة المتنوعة الأعضاء وسط عواصف وهيجاء تتصاعد وتهبط وتطفو وتهدأ وهو بعد كما الصاري في وسط السفينة يقف منتصباً يقاوم الرياح ويحفظ التوازن .

برغم فارق السن بيني وبينه ،، ومع أني لم أزامله في أي مرحلة دراسية ولكن بعين دارس علم الاجتماع إكتشفت فيه الشخصية القيادية والرجل الفذ المهيب بنصائحه .. والموضوعي بنقده .. وحين أجمع أغلب الأعضاء يوماً على أنه يمارس الديكتاتورية عليهم .. رأيت أن لا أخرج عن الجماعة ولكن أضفت صفة إلى الكلمة فاصبحت (الديكتاتورية الحميمة) ترقيقا لحدةِ الوصف والذي وإن مارسه حمدونَ يوماً فهو فقط بغرض ضبط الإيقاع وإحكام السيطرة على الشراع .

هكذا هو حمدون سبندية في السودان ما قبل الحرب وأثناء الحرب .. وفي أرض الكنانة التي هاجرنا إليها فراراً من جحيم الوغى .. وما إن وضع حمدونا قدماه في قاهرة المعز إلا وأحالها إلى حركة ونشاط دؤوب لا يهدأ .. فكم من مريض عاده.. وكم من صاحب حاجة زاره.. وكم من ميت وقف على رأسه معزياً وقاضياً لمستلزمات العزاء.. صدقاً لا رياءً.. ووفاءً دون من .. نشهد له لأنه كان ومازال يدفع بيمينه ولا تعلم يسراه .. وشعاره دوماً (إذا فرغت فأنصب).

أصبحت ليالي التأبين الحزينة لكل من فقدنا بعد مجيء حمدون الي قاهرة المعز ملتقيات أسرية تزينها روح الإلفة والحب والمحنة .

في ويوم وفاة طيب الذكر البروفيسور قور كان في طريقه الى مشوار خاص جزء منه فزعاً لجهة ما طلبت عوناً على الظروف المحيطة والتي نعلمها جميعاً .. وعندما آتاه هاتف بأن البروف قور قد إنتقل الى الرفيق الأعلى كان أول من حضر إلى المستشفى وظل مرابطاً الى أن تمت مواراة المرحوم الثرى بمقابر (عثمان بـ 6 اكتوبر).. ووقف بنفسه على كل الترتيبات اللوجستية فما احتاج كل من حضر إلى تدبير أمر الوصول إلى المقابر ذهابا وإيابا .. ولم يحتاج أحد إلى فعل إضافي فوق ما فعله حمدونا .. وهو الذي يسكن في إحدى مدن مصر الجديدة التي تبعد عن وسط المدينة زهاء الساعتين تقريبا .. إفترقنا يومها معه بعد منتصف الليل -أو قل إن شئت مع الساعات الأولى للفجر- فذهب ليكمل مشواره الذي قطعه عليه نبأ الوفاة ثم يعود إلى داره .. ولم يهدأ له بال حتى إطمان على ترتيب صالة العزاء وتجهيز اللوحة الخلفية والوقوف إستقبالا للوفود الغفيرة .

مثل حمدون ينبغي أن يشكر حياً وأمام عينه .. وقد بتنا في وقت كل منا يموت غبناً وقهراً و(أمبغيبغاً) .. فحتى لا نفقد أمثاله ثم لن يجد البكاء حينئذ .. وتصدق علينا تلك المقولة (شكارين الـــ ……..) ،، فحري بنا أن نحمد ونشكر ونقرظ الآن .. الآن.. ونبتهل لله متضرعين بان يبارك الله فيه وفي أمثاله وأن يجعله دوماً رمزاً وطنياً للوفاءِ والاخلاص والعطاء.

ونواصل،،،،،

القاهرة ٢٤ اغسطس ٢٠٢٥م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة عشر + ثمانية =

زر الذهاب إلى الأعلى