
ليس القتل دائمًا صوت رصاصة تخترق الجسد، أو خنجرًا يغرس في الصدر، بل هناك قتل أشد مضاءً، وأبطأ نزفًا… قتلٌ لا يُسفك فيه دم، بل تُسفك فيه السمعة، ويُزهق فيه العرض، وتُشنق فيه القلوب على أعمدة الشك والافتراء.
قال الله تعالى في محكم تنزيله:
“من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا”
وما هذا التوصيف الإلهي إلا بيان لجريمة تمتد أذرعها إلى الروح، لا البدن؛ إذ يُقتل الإنسان أحيانًا وهو حيّ، إذا سُلبت سمعته، وشُوّهت سيرته، وغُرز فيه سهم الكلمة الكاذبة، أو الاتهام المجاني.
وقد بدأ أول مشهد لهذا القتل المعنوي في التاريخ البشري مع قابيل وهابيل، حين قال الأول لأخيه:
“لأقتلنك”، قال “إنما يتقبل الله من المتقين”
كان الحسد هو الدافع، لا الجُرم. وهكذا يُقتل الصالحون لا لذنب، بل لأنهم صالحون، لا لتقصير، بل لأنهم صادقون.
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيَهُ
فالقومُ أعداءٌ له وخصومُ
في كل زمان، إن لم تستطع أن تواكب نجاح أحدهم، فما أسهل أن تطعن في نيّته. وإن لم تستطع أن تنافسه أثرًا، فما أيسر أن ترميه زورًا.
هكذا يغدو القذف لغة الجبناء، والإفك وسيلة العاجزين، والوشاية رصيفًا يلجأ إليه من ضاقت نفسه باتساع صدور النبلاء.
وما حادثة الإفك التي نزل فيها القرآن الكريم إلا درس خالد، حين نالت الشائعة من أطهر بيت، بيت النبوة، واغتالت الهمسات أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فصمت النبي ﷺ، وانتظر، حتى تولّى الله بنفسه إعلان براءتها:
“إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًّا لكم بل هو خير لكم”
ويعجب المرء كيف تكررت القصة نفسها عبر العصور، فقد أصبح اغتيال السمعة سلاحًا شائعًا في أيدي ضعاف النفوس، يرفعونه في وجه كل نزيه، ويوجّهونه نحو كل ناجح، حتى بات الإفك أسرع من الإنصاف، والتشويه أيسر من الاعتراف بالفضل.
أذكر أنني كنت في إحدى الدول خارج السودان، ورأيت هذا بعيني. رجل صالح من المقيمين ابناء الوطن ، نذر نفسه للعمل العام، لا يطلب جزاءً، ولا يعرف التململ، بل كان يسعى في قضاء حاجات الناس، في جمعياتهم ومنظماتهم، ويصل من قطعته الظروف.
لكن بعض المسؤولين – ولأن حضوره طغى على غيابهم – ضاقوا به ذرعًا، فجمع أحدهم خصومه وقال:
“يجب أن نُسقطه… اتهموه بالخيانة!”
لكن المفاجأة أن من حضروا، وكانوا على خلاف سابق معه، رفضوا هذا المكر. و قالوا:
“نختلف، نعم. لكننا لا نكذب. لم نرَ منه إلا الصدق.”
فأُسقطت المؤامرة، لا لأن الرجل دافع عن نفسه، بل لأن خصومه أبوا أن يبيعوا ضمائرهم.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ
وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
وفي موضعٍ آخر، أعرف مديرًا لإحدى المؤسسات الكبيرة، عُرف بالحزم والشفافية. قرر فصل بعض الموظفين المتقاعسين بعد مراجعة صارمة.
فما كان من أولئك إلا أن انقلبوا عليه، ورفعوا شكاوى كيدية ملفّقة. لكن التحقيق أنصفه، وأثبت نزاهته، وخرج من المحنة مرفوع الرأس، بينما بقي خصومه في دائرة الخزي.
وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ
طُويت، أتاح لها لسانَ حسودِ
بل أصبح كل من يتقلّد منصبًا عامًا، في مرمى النيران المفتوحة، تُستباح سيرته وأسرته وكرامته.
وقد سمعنا عن شخصية عامة في مناسبة اجتماعية، يتعرض لشخصه أحد الحاضرين باتهامات وتجريح، دون دليل أو معرفة.
فقال أحد الحضور بهدوء: “هل تعرف من تتكلم عنه؟”
فردّ الآخر: “نعم، وأعرفه جيدًا!”
هل قابلته او رايته قبل هذا ، فقال نعم اعرفه جيدا !!
فأشار إليه الرجل قائلًا: “هذا هو!” أمامك؛؛
فإذا به يبهت، ويتراجع، وقد بان أن لسانه سبق وعيه، وأنه كان يلوّك حديث المرجفين دون أن يتبيّن و انه لم يلتقي به من قبل لكنه يحكي القصة كانه يعرفه تماما و كانه حاضر كل تفاصيل القصة .
إن مثل هذه الوقائع هي التي تدفع كثيرًا من النبلاء والمهنيين الصادقين إلى الابتعاد عن العمل العام. لا خوفًا من المهام، بل خشية على سمعتهم من الطعنات الخسيسة.
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادهُ
فلم يبقَ إلا صورةُ اللحمِ والدمِ
فالسمعة عند الشرفاء رأسمالم الحقيقي. لا تُبنى في يوم، بل تُنسج عبر سنين، ولا تُشترى، ولا تُعوّض إن فُقدت.
ولأنهم يعرفون أن الطريق إلى القمة مليء بالألغام، آثر كثيرٌ منهم السلامة، وانسحبوا بصمت، وتركوا الساحة لذوي الضجيج.
نعم، هناك فاسدون يجب أن يُحاسبوا، لكن الحساب لا يكون على قارعة المنصات ولا في صالات النميمة، بل في ساحات القضاء، وبوثائق لا بالأوهام.
إنّ الكريمَ إذا خَاصَمتَـهُ
حَفِظَ المودّةَ ما استَطاعا
فليتنا نُعلّم أبناءنا أن الخلاف لا يبرّر الكذب، وأن الكلمة مسؤولية لا نزهة.
وأن من يفتري على الناس، لا يُسقطهم، بل يُسقط نفسه، من أعين الله أولًا، ثم من قلوب الناس.
وليتنا نرتقي في خصومتنا كما نرتقي في صداقتنا. فالنبل لا يُختبر في لحظة الود، بل حين تختلف، فإما أن تسمو… أو تهوي.
في زمن كثر فيه الاغتيال المعنوي، فلنكن نحن الباقين على العهد: صدقٌ في القول، ونبلٌ في الخصومة، ورحمةٌ في الخلاف . لعلّ ما بقي في هذا العالم من ضوء، يحفظه من يُؤثر النقاء على الظَفَر، والحق على الشُبهة.