الأبيض غرد حبابها .. إعتذار لأبوكبة فحل الديوم في يوم عيده بقلم : محمد يعقوب محمد علي

الأبيض غرد حبابها .. إعتذار لأبوكبة فحل الديوم في يوم عيده

بقلم : محمد يعقوب محمد علي

 

في سبعينيات القرن الماضي وكنا بعد اطفال صغار نســـترق الســـمع إلى المذياع بلهفة وحب ولا نكاد نتبين الكلمات ولا مغازيها .. فقط نسمع الكبار يهمهمون بحـــب واهــات حرى مكتومة .. ياسلااااااام ياسلام عليك يا ود بارا .. ثم تتكرر تلك العبارة المطربة من المذياع يابلومي يابلومي شيل السلام .. فنغرق نحن في النشيد ونجرى لنكمل بناء كوخنا الذي بدأنا تشيده في قلب خور البيطري الذي يفصل ما بين حي البيطري وقلب المدينة .. وأحياء الرديف والقبة وحي الجلاء .. وكنا بحكم الموقع إلى الخور اقرب .. نبني ونهدم واحيانا نترك مابنينا فتأتي المياه وتحيل الرمال رمالا ثم نواصل الكـــــرة مـــن جديد في تحدٍ غريب للطبيعة وإرادة طفولية عذبة ونحن نردد يابلومي يابلومي شيل الســــــلام .. ولا نعرف من هو هذا البلوم الذي طُلب منه أن يشيل السلام ولا إلى من سوف يرسله .

 

ثم بدأنا نكبر ونشب على الطوق وبالمقابل يكبر معنا حبنا للأبيض .. اذكر حين تفتحت أعيننا للحياة وصرنا نتبين الأشياء وجــدنا مــــبرراً لذاك الشـــاعر الذي كتب تلك المفـــــردات فــ الأبيض أصبحت عشـــقنا الســـرمدي نحن فيها ونشـــتاق إليها .. ولكـــن دارت عجلة الايام حـــول نفســـها ووجدنا أنفســـنا أن تفـــرق ســـامرنا أيدي ســـبأ .. ولم تبق سوى الذكريات .. بعض أصحاب الصبا انتقلوا إلى الدار الآخرة وبعضهم عصفت به عاصــفات الليالي وانتهى كل شــيء ولكن ظل حــــبنا للأبيض ينمـــو مع الايام ويكبر .. وكلما ازداد عمـــره سنيناً واعواماً .. ازداد نضـــوجاً.. وبان وضــوحا .. واضــحى حقيقة كما الظل حين يعكسه ضـــؤ الشمس فلا تســتطيع دفنه وكلما حاولت تجده يعلو التراب .

 

الابيض كانت ومازالت وستظل ســـــوداناً مصـــغراً .. فيه نرى حسن إدارة التنوع .. و جودة توزيع الموارد .. وحكمـــة إدارة الشــــأن العـــام .. فإن كانت فيدرالية سويسرا تدرس كنموذج شأنها شأن التجــــــارب الفيدراليـــة الأخــرى في العالم .. وتفخر (بجنيف) كبقعة لإلتقاء الوعي الإداري فإن (الأبيض) هي جنيف السودان بعظمة انسانها وخيرها الجوة وبرة .

ثم جاءت حــــرب الســودان والثلاثية المنحوسة وخُربت المــدن والقــــرى بحثاً الفلول ، والديمقراطية ، ودولة (٥٦) .. لاجتثاثهم من الوجود .. ولكن هيهات .. صمدت الأبيض كما عهدها عبر التاريخ ولم تنبس ببنت شفة .. صــــابرة محتسبة تعاني الجوع والمســـغبة وتحتمل أذى ذوي القربى .. بجلد ونبل عظيم .. وحاشـــاها ما انكســـرت ولن تنكسر ولسان حالها يردد :

طوف سهولها واعبر جبالها .. مر بكل وديانها وتلالها .. تلقى ريلا يغريك دلالها

.. والاسود الحارسة الحجال .

 

فتكســرت نِصَــال الغزاة أمام هذي الهيبة المروعة ورُدت إليهم بضاعتهم .. بعد أن هربوا من أم عش وأم عشوش والغبشة وشركيلا وأم روابة والسميح والرهد ابودكنة وانفض سامرهم من حولك دون أن يدركوا دولة (٥٦) .. ولا اجتثاث الفلول .. ولا العثور على الديمقراطية المفترى عليها .

 

ثم إني أدركت بعد مضي خمسون عاما ونيف مغزى يا بلومي شيل السلام .. أمشي بارا ومر بأمروابة .. والنهود الآسر شبابها .. والابيض غرد حبابها .. درة رائعة وقائده الكمال .

ولكن وآ أسفاه ،، بعد مضي سنوات العمر وسحب بساط الزمن من تحت الأرجل .. أقعدتني المعاذير عنك يا كردفان .. ولكن حٌسن ظَني بإخوةٍ لي همو بنوك .. كذا ومن صمد فيك لآخر لحظة أن تلك الحجال عُروناً لأسدك (جودات) و (إخوته) و (إخوانه) وحتماً لن يتزحزح منهم أحداً لينتهك عرض أو يغتصب ريلاً يغريك دلاله .. والصياد به رجال .

 

أكرر أسفي وإعتذاري إليك يا أبوكبة فحل الديوم .. إن كنت أنا يوم فرحك غياب .. وأجدد ثقتي في بنيك وأصدح وكلي يقين بما كتبت يوماً بأن الجيش سيظل جيشاً وكل الذي فوقَ التراب تراب .. ومن بين الدموع أردد مع ول جودات .. كردفان الصيد وقويزو .. والتبلدي في الشامخ بعزو .. والجمال النفخر بكنزو .. يا حليلها عروس الرمال .

 

محمد يعقوب محمد علي

القاهرة ٢٥ فبراير ٢٠٢٥

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى