إن الحرب التي تسببت فيها قوي الحرية والتغيير وأشعلها ( حميدتي ) في 15 ابريل 2023م لم تعد قصتها حرب الجيش والدعم ولكن خطابها السياسي والاجتماعي وممارساتها العملية أدت الي إنقسام كبير وسط السودانيين وبشكل تجاوز الصراع السياسي التراكمي بالسودان الي مناحي اخري ، وكذلك خطاب «قحت » الاقصائي و«حماس وجهل» العنصريين داخل مكونات المليشيا ، أمر رسخ بعض القناعات عند مكونات اجتماعية سودانية كثيرة فتحرك العنصريين هنا وهناك واذا استمر هذا الخطاب دون كوابح سوف يحدث اصرار بليغة تضاف الي تكاليف الحرب ..
ومنذ أن بدأت الحرب الحالية ثم تحولت العاصمة الي منطقة عمليات ، وانضم الي مجموعة المليشيا الانتهازيين تنادوا من أسطح وازقة مباني واحياء الخرطوم المختلفة ثم تدافعت قوافل المناصرة من مناطقة وحوضن المليشيا المتمردة الإجتماعية ومن مناطق اخري في السودان هدفها نهب ممتلكات سكان العاصمة الخرطوم ، حيث فقدت الخرطوم قوميتها حيث لا أحد يتخيل أن الجار يعتدي علي أصول وممتلكات جاره وإن بعض الاحياء يبتلع سكانها جيرانهم بتهمة الانتماء السياسي أوالانتقام القبلي ، لم تسلم حتي أحياء مدينة امدرمان التي كنا نطلق عليها العاصمة الوطنية وهي منطقة التماذج الذي صنعته الثورة المهدية وهي قاعدة المقاومة الأكثر رسوخاً باتجاه العنصرية والجهوية ..
إن الخطاب الذي قدمه التمرد في حربه داخل العاصمة الخرطوم أظهر حقيقة أن الخرطوم لم تعد عاصمة قومية وإنما كانت في حقيقتها خليطا تركيبيا أما القومية في حقيقتها مركزية وظيفية ولم يعد هناك قانون يضبط لنا مصطلح القومية ويحمي المركزية الحضارية لعاصمتنا الوطنية ، قانون يحاسب كل من يتجاوز هذا الارث الوطني العريق ..
ظهرت الخرطوم عاصمة متطرفة وليس مثل تلك العواصم الموحدة والتي إن إهتز طرف في الوطن هي في وحدتها يتحقق المعني الأكبر للدولة القومية الموحدة ، فإذا كان من أحد يخشى على الأمن القومي لبلادنا ، أو على الأمن الاجتماعي واستقرار قبائل السودان لما ناصر المليشيا والمرتزقة في حربهم علي السودان واهله ، فإن وجد واحد من القحاتة أو المثقفين الذين يدعمون التمرد من باب الاحقاد و( المكاجرة ) السياسية عليه أن يسعى جاهداً ليس لوقف الحرب كما يزعمون ( لا للحرب ) ، وإنما لوقف وإنهاء الاحتلال علي منازل سكان العاصمة القومية اولا ، والا فإن ( لا للحرب ) خطاب انتهازي معيب ويعدّ قبولاً بفكرة التهجير واحتلال المنازل .
نحن بحاجة الي خطاب سياسي اساسه أن حياة المواطن السوداني الكريمة أهم من اي مصالح سياسية والحقيقة ان الوقائع والاحداث منذ 11 ابريل 2019م أثبتت ان قحت المركزي وحلفاءهم لا يكترثون بالسودانيين وآخر همهم الحفاظ علي مكاسبهم السياسية وبأي ثمن ..
( قحت ) فعلت ذلك إبان ما عرف زورا بثورة ديسمبر حيث حشدت الشباب بخطاب عاطفي ثم غدرت بهم ، وفتحت السجون وخلافه والحدود ثم الدعوة الي تاسيس دولة مدنية متجاوزة كل المعادلة القديمة للدولة السودانية التي تتألف تقليديا من رأس قبلي وعشائري وديني كاسح اتفقنا أو اختلف حول ذلك ولكنه يمثل اساس طينة البناء الوطني في كل السودان واقاليمه ..
إن العاصمة الخرطوم كانت عاصمة عادية ، وهي خليط عصري مع مجتمع ريفي ولم تسود فيها الحياة العصرية كما الحال الاوربي بصورة طاغية ، وقد لا ابالغ كثيرا اذا قلت إن تاريخ العاصمة القومية ليس إلا تاريخ السودان منذ دولة سنار والمهدية أو يكاد ، والمتصفح لتاريخ الحكومات الوطنية المتعاقبة لم يشذ نظام عن هذا الارث حتي الانجليز استعمروا السودان وحكموه بهذا الارث الحضاري الذي حاول الحكام الجدد تفكيكه طوبة طوبة .. وإن الحرب الحالية هو حقيقة التفكيك ( طوبة طوبة ) ..
إن أكثر ما يؤسفني أن تسمح دارفور وكردفان التي كان لها دورا تاريخيا مرموقا في استقلال ووحدة السودان حيث ان مقترح الاستقلال من داخل البرلمان جاء من دارفور مقدمه الناظر ( عبد الرحمن دبكة) ناظر عموم البني هلبة والذي ثني المقترح هو الشيخ ( مشاور جمعة سهل ) ناظر عموم قبيلة المجانيين من كردفان ، يؤسفني ان تسمح دارفور وكردفان ان تكون طلائع طوفان الحرب علي الخرطوم تنطلق منها والمؤسف اكثر هو قلة الاصوات الرافضة من النخب بكل مشاربهم السياسية والاجتماعية لهذا الخراب الذي دمر عاصمتنا القومية ليس علي مستوي المباني وإنما دمر كل المعاني الوطنية النبيلة ، العار سيلحق الجميع بلا إستثناء ان تسمح هذه الاقاليم ان ينطلق منها حريق ودمار الخرطوم اي كانت المبررات .. وأذكر هذه الاقليم انها تقعوجغرافيا علي تخوم معرضة للاخطار الخارجية القادمة من الغرب والجنوب فعليهم ان ياخذوا حذرهم ..
علي آية حال علينا ان ننظر بايجابية لتاريخنا اكثر من الروح السلبية المتفشية في حاضرنا كما ان بلادنا بحاجة الي إعادة تكوين دولة وطنية قائمة علي تحديد كل شئ استنادا علي الموجب من تاريخنا المحفوظ ، نحن بحاجة الي قانون ودستور يعبر عن مكانة العاصمة القومية في كيان الوطن ، دستور يؤسس علي قيمة التنوع والعدالة والتقارب لا الانحدار والصراع والطبقات ، دستور يؤسس سقفا اعلي لبناء ونمو العاصمة من جديد وأرضية لنمو الاقاليم والولايات وبديهي ان يتحقق هذا ولابد من ان يشمل كل وظيفة من حزمة وظائف العاصمة لا سيما الصناعة بقوة عمالها والادارة بجيش موظفيها ، وبصورة أوضح نحن بحاجة الي مشروع نهضوي كبير ، مشروع لإعادة تطوير العاصمة القومية وقيادتها وأن تنقل بالقانون الي الاقاليم وأعني وظائفها وخدماتها ومرافقها ومزاياها إلي الريف لا أن تمنع الريف ان ينتقل الي العاصمة فذلك ليس ممكنا ولا فعلا ديمقراطيا لوقف العدوان وتقليل الغبن وتقوية سيادة الدولة ..