محمدين محمد اسحق يكتب : عن مذابح تولسا والضعين والإتفاق الإطاري نتحدث!

بعيد الحرب العالمية الاولي زادت توقعات الجنود السود الذين شاركوا في الحرب الي جانب الجيش الامريكي، بتغير أوضاعهم الي الأفضل في ظل دولة ديمقراطية كانت تمارس عليهم نظام الفصل العنصري والآقصاء الإجتماعي. وقد اكتسب هؤلاء الجنود السود معارف وحرف جديدة لم يكن لهم بها عهد من قبل. لكن الأهم من ذلك انهم أتوا بروح مفعمة بالأمل في واقع افضل لهم ولمجتمعاتهم. فظهرت معالم جديدة من السعي نحو التطور الفكري والعلمي والاقتصادي في بعض أحياء السود. النموذج الماثل وقتها كان فيما عرف بمنطقة (وول ستريت السوداء) في تولسا بولاية اوكلاهوما. حيث بدأ بعض السود في شراء الاراضي والمحلات وإقامة أنشطة تجارية خاصة بهم. ذلك الواقع الجديد لم ينظر اليه في المجتمع الأبيض بعين الرضاء فانتشرت تنظيمات الاستعلاء الابيض في تلك الفترة خاصة حركة الكوكلاس كلان. فتعرض وقتها بعض الجنود السود الي الاعتداء والقتل والسحل بسبب مواقف تافهة مثل أن أحد هؤلاء كان يسترق النظر الي فتاة بيضاء. وحدثت عمليات مجازر جماعية من اشهرها مذبحة تولسا (٢١ مايو ١٩٢١) والتي سقط خلالها العشرات من السود بين قتيل وجريح واحرقت دورهم ومتاجرهم وشردوا خارج مناطقهم. هذه المجزرة البشعة شارك فيها حتي الأطفال البيض والنساء. وكانت الذريعة التي بسببها ارتكبت هذه الجريمة العرقية تافهة للغاية وهي ان احد السود اتهم بالتحرش بامرأة بيضاء. ما يعنينا هنا انه لا بد من ملاحظة ان هذه الجرائم العنصرية التي تقوم بها الجماعات العنصرية مثل الكوكلاس كلان كانت تجد الدعم الشعبي قبل الرسمي ومن قطاعات كبيرة داخل المجتمع الأمريكي. الملاحظة الثانية هنا أن امريكا وقتها كانت دولة ديمقراطية وبها مؤسسات تشريعية وقضائية تتبع الدستور الامريكي الذي وضعه الاباء المؤسسون للولايات المتحدة لكن ذلك لم يمنع أن تكون في الدولة ممارسات عنصرية تصل الي حد القتل الفردي والجماعي. حادثة تولسا هذه كنموذج أظهرت الي اي مدي يمكن للعنصرية أن تنحط في سبيل إيقاف مجتمعات السود من التطور والتقدم حتي لو أدي الأمر الي ارتكاب مجازر وقتل خارج القانون. في ظل مجتمعات مثل هذه تكون مشحونة بالكراهية والبغضاء والاستعلاء والعنصرية تجاه اعراق بعينها تصبح الديمقراطية ومؤسساتها القائمة من حكومة وبرلمان ومحكمة دستورية وجهاز تنفيذي وغير ذلك مجرد ديكور وادوات ناعمة لتطبيق العنصرية وملحقاتها من استعلاء وتعصب جهوي واثني وغير ذلك من علل متعلقة بها.

هذا السودان نفسه قائم علي العنصرية -الخفية والعلنية- والاستعلاء العرقي والجهوي لا يفرق وضعه كثيراُ عن امريكا فيما يختص بتحكم مجموعات محددة فيه علي مقاليد السلطة في البلاد معززة بحواضن اجتماعية تحمل نفس علل نخبها.

ففي هذه الخرطوم وفي عهود مختلفة من فترات السيطرة المركزية حدثت مذابح عرقية استهدفت مجموعات محددة تارة من قبل الدولة وتارة من قبل الغوغاء وتارة ثالثة بين هؤلاء واؤلئك. في الحالة السودانية مثل امريكا لم تكن الديمقراطية جنةً وحلاً للازمة بل كانت جحيماُ وأزمة مثلما حدث فيما عرف بمذبحة الضعين ،(٢٨ مارس ١٩٨٧)، والتي تم فيها حرق وقتل أكثر من ٢٠٠٠ من الدينكا داخل القطار اكثرهم من النساء والاطفال وكبار السن، وكان ذلك في عهد حكومة ديمقراطية برئاسة الراحل الصادق المهدي، والذي لم يقدم فيها أحد من الجناة للعدالة وفي هذا لا يمكن تجاهل أن الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق ظلت تقاتل حكومة ديمقراطية منتخبة انتخاباً اتت بعد انتفاضة شعبية اطاحت بحكم الرئيس الراحل جعفر النميري. وفي المقابل وصل الي الحل مع سلطة شمولية. شئنا أم أبينا سطر التاريخ كلمته في النهاية باستقلال جنوب السودان عن السودان بسبب التاريخ الطويل من المآسي والآلام ونقض العهود والمواثيق وسياسات التهميش والاقصاء.

خطاب ابراهيم الشيخ القيادي بالحرية والتغيير المركزي بالامس القريبة الموجه للقائد مني اركو مناوي وما اسماه (بكتلته الديمقراطية) هو مثال يؤكد علي أن ما حدث في جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق لم تتعلم النخبة المركزية منه شيئاً. في الحصيلة النهائية للخطاب هو إعادة المجرب في لبوس السادة الجدد للسودان، ولا نريكم الا ما نري! وليس أدل من قوله وآخرين انه بسقوط البشير انتفت حجية الكفاح المسلح. وهنا نعيد ونقول ما كتبناه قبل سقوط البشير أن هناك فرق بين أحزاب وتنظيمات تناضل من أجل الحفاظ علي امتيازاتها التاريخية والمجتمعية والاقتصادية والسياسية، وبين ثوار يقاتلون من أجل حقوقهم الأساسية كبشر في الدولة السودانية. فالفئة الاولي يمكن لها ان تتوقف في محطة سقوط النظام الذي قاتلت ضده. لتحكم هي ولتعيد بعدها الاسطوانة المشروخة القديمة. وهي لها ان تتوقف عن النضال والركون الي السلطة. ولكن ليس من حقها أن تفرض علي الآخرين خياراتها. بالنسبة لثوار الكفاح المسلح في الهوامش فالمشوار لا ينتهي هنا بسقوط الطاغية لان نظام الطاغية هو مجرد جبل جليد في لج دولة عميقة تقود البلاد بشخوص محددة تختلف ايدولوجياتها وتتقلب من يسار الي يمين لكن يظل المنهج والمخطط هو نفسه لا يتغير بتغيير الاشخاص! اذاً النضال الثوري للفئة الثانية لن يتوقف الا بتثبيت الحقوق المتساوية والتوزيع العادل في السلطة والثروة مثلما حدث تضمينه في اتفاق جوبا لسلام السودان.

نكتب هذا المقال ونحن علي عتبات سويعات من التوقيع علي ما سمي بالإتفاق السياسي الإطاري بين المكون العسكري وقوي الحرية والتغيير- المجلس المركزي. ما نراه ليس بجديد إذ هو العودة الي مربع الشراكة ومربع الأزمة الاولي التي أدت الي إجراءات ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١. إعادة نفس الفكرة البائسة المتمثلة في صناعة قيادة وحاضنة للحكومة تتحكم فيها قحت المجلس المركزي عبر التوقيع علي الاعلان السياسي الذي تم في ٨ ديسمبر ٢٠٢١ بقاعة الصداقة، والذي ادي الي انشقاق قوي الثورة والتغيير الي كتل مختلفة.

مشكلة بعض قيادات قحت المجلس المركزي انها تظن انه يمكن لها ان تتحصل علي نتيجة مغايرة بتجربة نفس الوصفة مرة اخري. فهي قد ظنت انها باعلانها السياسي الموقع في ٨ سبتمبر ٢٠٢١ تستطيع أن تحكم السودان وان تقصي بعض قوي الكفاح الثوري المسلح عن الساحة تماماً. وهذا ما لم يحدث. بل دخلت البلاد في أزمة لا زالت تبعاتها قائمة حتي اللحظة. واليوم توقع علي الاتفاق السياسي الإطاري نسخة. وهي تعتقد جازمة انها ستعيد عقارب الساعة الي الوراء وهذا ما لن يحدث ابداً. فهي يمكن ان تضع يدها مرة اخري في يد العسكر وان تأتي بحكومة تتحكم فيها لكنها بالتأكيد لن تستطيع أن تبني دولة قومية بالشكل الذي يحقق الحقوق المتساوية والعدالة والمساواة للجميع! فالتضحيات الجسام التي حدثت في هوامش البلاد لا يمكن في النهاية أن تكون نتيجتها تبديل ايدولوجية باخري فحسب! دون تغيير جذري للسودان المركزي القديم. حينها لا مفر من استمرار النضال علي كل الاصعدة وبشتي السبل!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى