جمال عنقرة يكتب : العبقرى الإنسان سعيد لوتاه .. الغرس الطيب

تأملات

فقد العالم الإسلامي، والإنسانية جمعاء رجلا فذا لم يجد الزمان بمثله كثيرا، إنه الشيخ سعيد لوتاه الذي انتقل إلى رحاب ربه تعالي قبل أيام عن عمر يقارب المائة عام، قضاه كله في خدمة الإنسانية والدعوة إلي الله تعالى بهدى وبصيرة، وبرؤى وأفكار ومشروعات مبتكرة وخلاقة هي كلها من بنات أفكاره، كانت خير غرس زرعه في هذه الدنيا الفانية نسأل الله أن يجنى حصاده يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
تعرفت علي الشيخ سعيد لوتاه قبل نحو عشرين عام تقريبا، وقدمنى له الأخ الهادي صهر أخي وصديقي الحبيب المرحوم أنور قمر الدين زمرواي، وزرناه في مملكته بمدينة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان معي أخي الحبيب الدكتور محمد بشير قسم السيد وكيل كلية غرب النيل حاليا، وكنت وقتها مديرا لفرع جامعة الإمام المهدي في العاصمة الوطنية أم درمان، وكنا نعد العدة للانطلاق الأول لكلية غرب النيل التي أسسها المرحوم الرجل الاستثنائي الشيخ الأمين الفكي له الرحمة والمغفرة، ولقد قضينا يوما كاملا في مملكة الشيخ سعيد، ودعانا ثانية لتناول وجبة الغداء معه.
الشيخ سعيد إماراتي من أصول إيرانية، جاء إلي الإمارات شابا، واستقر في مدينة دبي وكانت لا تزال وقتها علي بداوتها الفطرية، وكانت بيوتها الصغيرة والكبيرة كلها مبنية بمواد بدائية غير ثابتة، وكان الشيخ لوتاه يعرف فنون البناء بالحجر والطين، فبنى له بيتا صغيرا في ضاحية دبي، وكان الناس يتجمهرون حوله لمشاهدة هذه الصنعة البديعة، ولم يبخل عليهم بالتدريب والتعليم لها، ثم طلب منه الميسورون منهم أن يبني لهم بيوتا مثل بيته، ففعل ذلك، فصارت له إيرادات معقولة مما يفعل، وكثر عدد الذين تعلموا الصنعة علي يديه، وتكاثفت البيوت حوله، فجاء حاكم دبي علي ذاك العهد العبقري الفريد الشيخ راشد آل مكتوم يرحمه الله مارا بتلك المنطقة، فلفت انتباهه منظر المباني المتفرد، فسأل عن بانيها فدلوه علي الشيخ سعيد لوتاه، وكان وقتها لا يزال شابا فتيا، فدعاه لزيارته في اليوم التالي، وطلب منه أن يبني له مقرين للسكن وإدارة الحكم، ودفع له قيمة ما اتفق عليه مقدما، فجمع الشيخ لوتاه مجموعة من الذين تعلموا منه صنعة البناء، وعملوا معه نظير أجر مجز، فأنجزوا ما طلب منهم في وقت قياسي، فعهد إليه شيخ راشد بناء منازل ومؤسسات أخري، فأنجز بأسرع وأحسن مما فعل في المرة الأولى، وكانت تلك هي بداية تأسيس شركة ال لوتاه للبناء والتشييد.
عندما زرت الشيخ سعيد لوتاه يرحمه الله سحرتني طريقته في تسيير أعماله، وكان عمره وقتها يقارب الثمانين عاما، وكانت أعماله كلها محوسبة، وكان يخصص يوما في الأسبوع للمقابلات الخارجية، وأظنه كان يوم الثلاثاء، وكان الزائر أول من يقابل في المؤسسة يقابل الشيخ نفسه، ويستمع إلى موضوعه، ويأخذ ويعطي معه، ويدون كل ذلك علي جهاز الحاسوب، فإن كانت هناك خدمة تقدم له، أو عمل ينجز، حوله إلي صاحب الاختصاص داخل المؤسسة، فعندما يصل الشخص إلى الموظف المعنى يجد أن الشيخ قد زوده بكل المعلومات التي أخذها منه عبر الحاسوب، ويرسل له معها توصيته، وإن لم يكن هناك شئ يمكن فعله اعتذر له وودعه.
أسس الشيخ سعيد مدارس متكاملة، ووضع لها منهجها التعليمي والتربوى، وأجاز ذلك من وزارة التعليم الإماراتية، ويقبل في هذه المدارس فقط الطلاب المسلمون من غير الدول العربية، وبها داخليات ونظام اعاشة متكامل، ويقبل الطالب في سن خمس سنوات، ويقضي في المدرسة إحدى عشرة عاما، يدرس فيها المراحل الثلاث للتعليم العام، الابتدائي والمتوسط، والثانوي، وعند يكمل المرحلة الثانوية، يكون قد حفظ القرآن الكريم، وتعلم أساسيات العلوم الإسلامية، وأجاد اللغتين العربية والإنجليزية، ولغة ثالثة، وأجاد حرفة إجادة كاملة، وتكون بنيته الجسمانية علي أحسن ما يكون من خلال التمارين الرياضية التي يبدأ بها الجميع يومه، ويجيد لعبة رياضية، فيجلس لامتحان الشهادة الثانوية، فإذا تم قبوله في الجامعة تحمل مصروفات الدراسة من خلال الصنعة التي أجادها، وتمنحه المؤسسة كل معدات العمل المطلوبة، وإذا لم يوفق في دخول جامعة، يدخل إلي الحياة العملية، وتمنحه المؤسسة أيضا الأدوات والمعدات المطلوبة للعمل، علما بأن المؤسسة تقدم رعايات خاصة لأبنائها المتفوقين، سواء كان هذا التفوق أكاديمي أو ثقافي أو رياضي أو غيره.
وأسس الشيخ لوتاه جامعة للبنات للعلوم الطبية والصحية، تلتزم أحدث طرق التدريس والتدريب، وبها أيضا داخليات متكاملة، كما كان من السابقين في المنطقة في اعتماد منهج للتعليم الجامعي عن بعد.
وللشيخ سعيد لوتاه طريقة عبقرية في توزيع الزكاة، فبعد أن يحصي زكاة العام، وعادة ما يفعل ذلك في شهر رمضان المبارك، يخصص هذا المبلغ لمشروعات إنتاجية صناعية أو زراعية أو غيرها، ويوزعها علي كل أنحاء العالم الإسلامي، فالمجموعة التي يقع عليها الإختيار تسلم المشروعات، التي تخرجها تماما من دائرة الفقر، وتدخلها إلي عالم الانتاج والمنتجين، ويطلب منهم سداد قيمة هذه المشروعات علي سنوات تحدد حسب دراسات الجدوي، ويخصص ما يدفعون إلي تأسيس مشروعات أخري لفقراء في نفس المنطقة، وهكذا تخرج كل عام مجموعة من دائرة الفقر وتدخل إلي عالم الإنتاج بفضل مشروعات الشيخ سعيد لوتاه الزكوية العبقرية من بعد فضل الله تعالي. وللأسف الشديد أن الشيخ أنشأ مشروعا زكويا انتاجيا عبقريا في السودان في ولاية الجزيرة في منطقة حنتوب، فأسس مزارع متكاملة وفيها سكن ومياه وحظائر، وغيرها، يشاهدها المسافر علي طريق مدني القضارف، إلا أننا لم نتعامل معها بالجدية المطلوبة وصرنا كمن ينطبق عليه الوصف (أكل التيراب) فلم تتطور هذه المزارع، ولم تحافظ حتى علي حالها الذي أنشئت عليه، فلم يستفد منها الذين خصصت لهم، ولم يمتد خيرها بالطبع لغيرهم.
رحم الله الله الشيخ سعيد لوتاه عبقري زمانه، الذي قدم للأمة الإسلامية وللانسانية جمعاء ما لم يقدمه كثيرون غيره، وفاتني أن أذكر أنه صاحب فكرة ومؤسس مصرف دبي الإسلامي له الرحمة والمغفرة، ونسأل الله أن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

19 − 4 =

زر الذهاب إلى الأعلى