بروفيسور إبراهيم محمد آدم يكتب : تأملات حول بائع جوال

في إشارة المرور عند تقاطع صينية أول الأزهري جنوب السوق المركزي وجنوب السكة الحديد كان المشهد، ولكن يا إلهي لماذا تظل حياتنا كلها بلا عنوان فلا أحد يعرف اسماً لهذه الصينية رغم أن دوار المرور والميادين والشوارع العامة كبرت أو صغرت في أي بلد آخر في العالم لها أسماء ذات دلالات إلا نحن في السودان الذين ندعي أننا نهوى أوطاننا ونطرى خلانا، لذلك قد نصف موقع ما بأن جواره عربة متعطلة أو زير ماء، فلو تحركت العربة أو انكسر الزير حتى لو تمر عليه البصيرة أم حمد لضاع الوصف، وهنا أوجه الحديث إلى من وجد من المسئولين في هذا الزمان الذي لا أريد وصفه فأدخل في حرمة سب الدهر، وهو أمر نهتنا عنه السنة المطهرة، كانت إشارة المرور حمراء مما اضطرني للتوقف، وقد كانت مدتها هي الأطول فقد بلغت مائة وعشرين ثانية.
من نافذة السيارة لمحتهما الأول كان الأصغر عمراً والثاني قد تقدم في العمر قليلاً فقد اختط الشيب بضع شعيرات في رأسه رغم أن ملامح الشباب تبدو عليه، ربما شاب رأسه بفعل وقائع الدهر وصروف الأيام التي يشيب لها الولدان فاكتسب تلك السمات العمرية التي لا تناسبه، البائع الجوال الأصغر كان يساعد الأكبر في كيفية حزم بضاعته للتحرك بها بخفة بين السيارات عند توقفها في إشارات المرور، فالمعطر الصغير الذي يوضع على طبلون السيارة قد ربط كل واحد منه بخيط حتى يسهل حملها جميعها بلبسها في أصابع اليد، وقد بلغت من العدد ستاً، والمعطر الأكبر الذي يسمى بالبخاخ ربطت مجموعة منه بحبل واحد من وسطها ليحمل على اليد الأخرى بينما كان هناك كيساً من المناديل الورقية الناعمة ربط بحبل متين ليوضع على الكتف فيتيسر حمل أكبر كميات منه.
كنتُ أراقب تلك التجهيزات التي يقوم بها البائع الأصغر للبائع الأكبر والأخير الذي ربما يكون قد دخل هذه المهنة حديثاً، تبدو عليه ملامح الشعور بالسعادة التي تحس بها عندما يساعدك شخصاً ما في قضاء حاجة دون مقابل وبلا من أو أذى، في تلك اللحظات جالت بخاطري مجموعة من الأسئلة فهؤلاء الشباب كان يمكن الاستفادة منهم في الزراعة أو الصناعة فتذكرت ضنك الزراعة وبؤس حال الصناعة، فأسررت في نفسي أن هؤلاء على الأقل يعملون عملاً شريفاً ويكسبون رزقاً حلالاً بدلاً عن التسكع في الطرقات أو إطالة الانتظار في ظل الضحى الذي نقول في عبارة مستغربة إنه يطيل العمر.
هنا تذكرت أشهر الباعة الجائلين والذي أتحفنا بكتاب (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر على الناس)، وهو مثال أولي سباق، ونموذج مفضل من ضرب كتب الاعتماد على النفس، والكتاب لذلك الكاتب الأميركي الأشهر والذي غير اسمه من كارنياجي إلى كارنيجي وسمي باسمه أكبر معهد للتنمية البشرية وهو معهد ديل كارنيجي،وكارنيجي قام في حياته بتدريب أكثر من نصف مليون شخص بشأن الحديث على الملأ وتحسين النفس في معهده ذاك، فساهم في تغيير حيوات كثيرين، نعم لقد غير كارنيجي الحيوات وأثر على أمريكا وربما العالم بشكل دائم، وقد وجدت أمة من رجال الأعمال الطامحين في كتب كارينجي سبيلاً، فقد كانت فكرة البائع الجوال في أمريكا مهمة على الدوام ومثلما يقول تيموثي سبيرز فمن الإعلان إلى العلاقات العامة إلى السياسة تخلل العاملون بالبيع واستراتيجيات البيع الحياة الأمريكية، فقد شكل الذين يبيعون كل شئ، وتجار التجزئة، والذين يطوفون لتوفير السلع من باب إلى باب، والقائمون بالتسويق عبر الهاتف بل والرؤساء، قائمة جزئية من الأشخاص الذين لديهم شيئاً يبعونه، وقد شكلت شخصية البائع الجوال موقع القلب من أعمال كلاسيكية في الأدب الأمريكي مثل بابيت لويس (بائع الثلج) و(موت بائع جوال) لآرثر ميلر، ذلك لأن الأميركيين يحبون البائعة الجائلين، وقد أذهلني أسلوبهم في بعض كتب التنمية البشرية المتعلقة بمجالات الأعمال فهم يقولون مثلاً إن الله يحبك ويريدك أن تنجح، آمن بنفسك، امض قدماً في العالم ، داهنه، وسيعتني بك، وقد وجدت الكثير من تلك المعاني بعبارات أخرى في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، فالله قد ربط دوماً بين ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ووعدهم بالجزاء الأوفى، وفي آية أخرى يقول تعالى ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى )، وفي آية ثالثة (وابتغ في ما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) ، وغير ذلك من كريم الآيات وشريف الأحاديث.
ويعترف كارنيجي نفسه أن رائد تلك التجربة هو الرئيس الأمريكي بنجامين فرانكلين الذي قال إن الله يساعد من يساعد نفسه وقدم فرانكلين نفسه كشاب بلا أصل ولا فصل مضى قدماً عن طريق حسابات تتسم بالدهاء وكذلك بالعمل الشاق فأصبح رئيساً لأمريكا.
إن ذلك الكتاب الذي صدرت منه سبعة عشرة طبعة وبيع منه ما يربو على خمسة ملايين نسخة في الولايات المتحدة وحدها، كان ملهماً أيضا لروسيا ما بعد أفول الشيوعية ففي الفترة من عام 1989- 1997م طبعت منه ثمانية وستين طبعة باللغة الروسية، ويمكن للمرء القول بان كارنيجي مثل بالنسبة لمنظمي المشروعات الروس الطامحين ( الطريقة الأمريكية ) وأن هذه الطريقة كانت ناجحة بصورة ضاربة في العالم ونجاحها يبيع نفسه، وربما يشابه ذلك قصص نجاح مطاعم ماكدونالدز والتي عندما تم افتتاح فروعها في موسكو احتفل بها كإشارة تحرير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى