حسين أركو مناوي يكتب : محن السودان: معركة أخرى في التنميط

حسين أركو مناوي

التحول الذي يحدث في الساحة السودانية بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية يكاد يكون حاضراً في نفس كل شخص سوداني وكلنا نخوض هذه التجربة بدرجات متفاوتة وأدوات التحول واضحة للعيان بل هي في متناول كثير من الفاعلين في الساحة السياسية وقد تكون هناك أيضاً درجات متفاوتة في تشخيص الوضع السياسي ولكن المؤكد هو الاختلاف الكبير في طريقة التعامل مع الأوضاع التي تنجم بسبب التفاعل السياسي بين العناصر الفاعلة في الميدان. في حالات كثيرة تنشأ مشاكل معقدة بسبب غياب القراءة الصحيحة للأوضاع وأيضاً التعامل اللائق مع الظرف السياسي الراهن، وللحقيقة نحن السودانيون يذهب وقتنا هدراً في جوانب ليست من أولويات الظرف السياسي الذي فيه البلد وأيضاً الكثير مننا يقرأ السودان من منظور تقليدي للسياسة في الوقت الذي تنفرد السودان بوضعية خاصة قد لا تتطابق مع تجارب كثير من دول العالم. السودان لا يوجد له مثيل في الإقليم الذي من حولنا من حيث صراع التنوع، إضافة إلى انه دولة لا زالت في مرحلة الطفولة (toddler stage) أىّ مرحلة التكوين تعاني من تمزق رهيب في الولاءات وهذا يتطلب من الشعب السوداني التوافق حول مشتركات أدنى كأولوية نحو تأسيس الدولة.

أتذكر كنت طالباً بجامعة جوبا في منتصف الثمانينيات القرن الماضي في ركن من أركان النقاش شاركني زميل يبدو من حديثه هو عضو في حزب الأمة الذي ترأسه الراحل الإمام صادق المهدى وكان حوارنا حول دور القوى السياسية في بناء السودان. وقد تناقشنا في أشياء مرئية وأخرى غير مرئية استنتاجية. أثناء النقاش قدمت له تحليلاً وفق معطيات المتوفرة وقتئذ، فقلت له أنا أرى هناك تيارين لهما فاعلية في تشكيل السودان القادم ولكن لا ندري إذا كان السودان المرتقب هو المحطة الأخيرة لدولتنا القومية، و التياران هما الحركة الشعبية بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق والحركة الإسلامية بقيادة الراحل الدكتور حسن الترابي، وقلت له للأسف التياران يتحركان في اتجاه التصادم. والرجل لم يعجبه جزء من كلامي، خاصة ذكر تيارين فقط دون ذكر حزب الأمة، وطفق يتحدث عن دور حزب الأمة في الاستقلال ومتانة قاعدته وانا بدوري أكدت له كل ما قاله صحيح ولكن قلت له تأكد ايضاً اي عمل او نتاج سياسي يتوقف في الدرجة الأولى على مدى الفاعلية السياسية للحزب وهذه الميزة لا تتوفر في الوقت الحاضر إلا في الحركة الشعبية والحركة الإسلامية وبمرور الزمن حدث ما كنت أتوقعه حيث قامت الحركة الإسلامية بانقلاب 30 يونيو 1989، الإنقلاب الذي به ترتب على السودان نتائج كارثية آثارها يعاني منها السودان حتى اليوم والحركة الشعبية من خلال عنفوان المقاومة أحدثت أيضاً تغييراً جذرياً في كيان الدولة السودانية بتقسيم البلاد إلى دولتين. الفاعلية السياسية التي أشرت إليها فعلاً أحدثت تغيرات هائلة في محطتين تاريخيتين ضمن محطات مسيرة الوطن. إنقلاب 30 يونيو 1989 كانت محطة مهمة من تاريخ السودان والاستفتاء الذي وفر المشروعية لانفصال الجنوب ايضاً محطة مهمة ولا زالت الدولة السودانية في سيرورة التكوين وبدون تشائم أنا أرى الأفق السياسي لا زال تكتنفه الضبابية. .

مع تنشيط قليل للذاكرة نستطيع أن نستعيد وقائع المشهد الذي فيه قاد البلد إلى دولتين ويكاد نفس المشهد يتكرر الآن في السودان، واقصد بذلك محاولة تنميط فئة سودانية من خلال الشك في سودانيتها وهو اتجاه تقوده دوائر سياسية واجتماعية تقاتل من أجل الحفاظ على وضعية قديمة غير صالحة قامت وتأسست عبر عقود على فكرة احتكار الوطن وتوزيع صكوك المواطنة وإن رقصت هذه الدوائر على مسرح الديمقراطية وعزفت موسيقى المدنية زوراً وبهتاناً، أنهم اقصائيون وإن قدموا أنفسهم في ثوب الواعظين ولكن الوعى هذه المرة قفز قفزات نوعية ولا يغرنّهم وقوع القلة من بعض ضحايا الإقصاء في مصيدة الإعلام الكاذب وهي تردد كالببغاء مقولاتهم. والغريب البعض اصلاً لم تعترف بحكومة حمدوك وقالوا هذه حكومة انقلاب، والآن يقولون ايضاً هذه حكومة انقلاب. فَهمٌ غريب. مثل هذه المسارح الكاذبة قد مرت على الشعب السوداني مرات باسم الطائفية ومرات اخرى باسم الدولة الإسلامية وفعلاً في وقتها فعلت بالسودان أفاعيل ولكن الوعى الآن أكبر من أن يقع فريسة لخدعة سياسية أخرى You can fool some people sometimes but you can’t fool all the people all the time.

حتى لا يكون الكلام مرسلاً ومجرداً من سياقات ذات صلة بالموضوع (decontextualized) كان الراحل الدكتور جون قرنق يقاتل وفق أولويات معروفة ولم يشتت جهوده في حروب (دونكيشوتيه ). الصراع في فترة حرب الحركة الشعبية يتركز حول نزع الاعتراف أىّ انهم كانوا يقاتلون من أجل الوجود وبالتالي الأولية كانت المواطنة وليست ملحقات المواطنة مثل الديمقراطية والاشتراكية والعلمانية وقد تجلت في ذلك الصراع أسوأ أنواع التنميط في انتزاع حق المواطنة من شعب جنوب السودان. الدكتور جون قرنق في نضاله من أجل المواطنة حارب العدو بلا هوادة، ولم يترك قائم سيف وأعقاب رمح والا وجهها في صدر الإقصائيين. من تجليات الصراع حول المواطنة، أعلنت الدولة المركزية حرب جهادية ضد الجنوبيين، تم تصنيف الدكتور جون قرنق بأنه صليبي كافر بل وصلت الحرب إلى درجة تصويره في الإعلام مخلوق اسود غريب مصاص دماء له قرون كالثور. هذا التصوير النمطي كله كان الغرض منه سحب حق المواطنة والشك في أهليته أن يكون جزءاً ممن لهم حق القيادة أو الرئاسة في الدولة السودانية.

حرب التنميط لا زالت في ذروتها وخاصة بعد اتفاق جوبا للسلام، وواضح اتفاق جوبا للسلام حركت مياه راكدة من الأعماق وحركت مدن كانت في سبات عميق وأخرجت أثقالها وقد علمتنا تجارب السياسة السودانية كلما ترتفع الأصوات ويكثر الضجيج الإعلامي كلما كان هناك تفاعلاً سياسياً من العيار الثقيل وهذا هو نفس الصياح والضجيج إبان الحراك الذي أحدثته الحركة الشعبية بقيادة الراحل جون قرنق.. السودان كما قلنا في مرحلة التحول ومرحلة نشأة الدولة الوطنية على أسس المواطنة المتساوية فإما الوحدة بالتراضى واما تجربة جنوب السودان ويجب ان نحرص على ألا ينفلت منا الوطن وأن نتحاشى تجربة الجنوب ولن يتأتى ذلك في ظل السكون والركود السياسي ولا بد من حراك نوعى في السياسة حتى لا نترك من بايدهم صكوك المواطنة يعبثون بمستقبل السودان. لكي نحافظ على قوة دفع ضرورية تدفع بالحراك السياسي نحو تشكيل سودان الغد من المفيد أن نهزم عنجهية وغطرسة دعاة الإقصاء بقدر عالى من التفاعل مع الأحداث والإمساك بخيوط اللعبة السياسية في الأولويات دون أن نهدر وقتاً في حروب ( دونكيشوتية) ويجب أن نتعامل مع الوضع بقدر كبير من البراغماتية في كلتا الحالتين، حالة الابتزازاً، وحالة الوفاق وإن كنا يوماً نعمل بمبدأ (أما حياة تُسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا)، أعتقد نحن الآن في مرحلة جديدة، مرحلة الوفاق ( منقو قل لا عاش من يفصلنا).

اخبار السودان
اخبار السودان » كتابات » حسين أركو مناوي يكتب محن السودان: معركة أخرى في التنميط.

كتابات
حسين أركو مناوي يكتب محن السودان: معركة أخرى في التنميط.
تم النشر منذُ 9 ثوانياضف تعليقاًمصدر الخبر / سودان تربيون

مصدر الخبر / سودان تربيون

حسين أركو مناوي

التحول الذي يحدث في الساحة السودانية بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية يكاد يكون حاضراً في نفس كل شخص سوداني وكلنا نخوض هذه التجربة بدرجات متفاوتة وأدوات التحول واضحة للعيان بل هي في متناول كثير من الفاعلين في الساحة السياسية وقد تكون هناك أيضاً درجات متفاوتة في تشخيص الوضع السياسي ولكن المؤكد هو الاختلاف الكبير في طريقة التعامل مع الأوضاع التي تنجم بسبب التفاعل السياسي بين العناصر الفاعلة في الميدان. في حالات كثيرة تنشأ مشاكل معقدة بسبب غياب القراءة الصحيحة للأوضاع وأيضاً التعامل اللائق مع الظرف السياسي الراهن، وللحقيقة نحن السودانيون يذهب وقتنا هدراً في جوانب ليست من أولويات الظرف السياسي الذي فيه البلد وأيضاً الكثير مننا يقرأ السودان من منظور تقليدي للسياسة في الوقت الذي تنفرد السودان بوضعية خاصة قد لا تتطابق مع تجارب كثير من دول العالم. السودان لا يوجد له مثيل في الإقليم الذي من حولنا من حيث صراع التنوع، إضافة إلى انه دولة لا زالت في مرحلة الطفولة (toddler stage) أىّ مرحلة التكوين تعاني من تمزق رهيب في الولاءات وهذا يتطلب من الشعب السوداني التوافق حول مشتركات أدنى كأولوية نحو تأسيس الدولة.

أتذكر كنت طالباً بجامعة جوبا في منتصف الثمانينيات القرن الماضي في ركن من أركان النقاش شاركني زميل يبدو من حديثه هو عضو في حزب الأمة الذي ترأسه الراحل الإمام صادق المهدى وكان حوارنا حول دور القوى السياسية في بناء السودان. وقد تناقشنا في أشياء مرئية وأخرى غير مرئية استنتاجية. أثناء النقاش قدمت له تحليلاً وفق معطيات المتوفرة وقتئذ، فقلت له أنا أرى هناك تيارين لهما فاعلية في تشكيل السودان القادم ولكن لا ندري إذا كان السودان المرتقب هو المحطة الأخيرة لدولتنا القومية، و التياران هما الحركة الشعبية بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق والحركة الإسلامية بقيادة الراحل الدكتور حسن الترابي، وقلت له للأسف التياران يتحركان في اتجاه التصادم. والرجل لم يعجبه جزء من كلامي، خاصة ذكر تيارين فقط دون ذكر حزب الأمة، وطفق يتحدث عن دور حزب الأمة في الاستقلال ومتانة قاعدته وانا بدوري أكدت له كل ما قاله صحيح ولكن قلت له تأكد ايضاً اي عمل او نتاج سياسي يتوقف في الدرجة الأولى على مدى الفاعلية السياسية للحزب وهذه الميزة لا تتوفر في الوقت الحاضر إلا في الحركة الشعبية والحركة الإسلامية وبمرور الزمن حدث ما كنت أتوقعه حيث قامت الحركة الإسلامية بانقلاب 30 يونيو 1989، الإنقلاب الذي به ترتب على السودان نتائج كارثية آثارها يعاني منها السودان حتى اليوم والحركة الشعبية من خلال عنفوان المقاومة أحدثت أيضاً تغييراً جذرياً في كيان الدولة السودانية بتقسيم البلاد إلى دولتين. الفاعلية السياسية التي أشرت إليها فعلاً أحدثت تغيرات هائلة في محطتين تاريخيتين ضمن محطات مسيرة الوطن. إنقلاب 30 يونيو 1989 كانت محطة مهمة من تاريخ السودان والاستفتاء الذي وفر المشروعية لانفصال الجنوب ايضاً محطة مهمة ولا زالت الدولة السودانية في سيرورة التكوين وبدون تشائم أنا أرى الأفق السياسي لا زال تكتنفه الضبابية. .

مع تنشيط قليل للذاكرة نستطيع أن نستعيد وقائع المشهد الذي فيه قاد البلد إلى دولتين ويكاد نفس المشهد يتكرر الآن في السودان، واقصد بذلك محاولة تنميط فئة سودانية من خلال الشك في سودانيتها وهو اتجاه تقوده دوائر سياسية واجتماعية تقاتل من أجل الحفاظ على وضعية قديمة غير صالحة قامت وتأسست عبر عقود على فكرة احتكار الوطن وتوزيع صكوك المواطنة وإن رقصت هذه الدوائر على مسرح الديمقراطية وعزفت موسيقى المدنية زوراً وبهتاناً، أنهم اقصائيون وإن قدموا أنفسهم في ثوب الواعظين ولكن الوعى هذه المرة قفز قفزات نوعية ولا يغرنّهم وقوع القلة من بعض ضحايا الإقصاء في مصيدة الإعلام الكاذب وهي تردد كالببغاء مقولاتهم. والغريب البعض اصلاً لم تعترف بحكومة حمدوك وقالوا هذه حكومة انقلاب، والآن يقولون ايضاً هذه حكومة انقلاب. فَهمٌ غريب. مثل هذه المسارح الكاذبة قد مرت على الشعب السوداني مرات باسم الطائفية ومرات اخرى باسم الدولة الإسلامية وفعلاً في وقتها فعلت بالسودان أفاعيل ولكن الوعى الآن أكبر من أن يقع فريسة لخدعة سياسية أخرى You can fool some people sometimes but you can’t fool all the people all the time.

حتى لا يكون الكلام مرسلاً ومجرداً من سياقات ذات صلة بالموضوع (decontextualized) كان الراحل الدكتور جون قرنق يقاتل وفق أولويات معروفة ولم يشتت جهوده في حروب (دونكيشوتيه ). الصراع في فترة حرب الحركة الشعبية يتركز حول نزع الاعتراف أىّ انهم كانوا يقاتلون من أجل الوجود وبالتالي الأولية كانت المواطنة وليست ملحقات المواطنة مثل الديمقراطية والاشتراكية والعلمانية وقد تجلت في ذلك الصراع أسوأ أنواع التنميط في انتزاع حق المواطنة من شعب جنوب السودان. الدكتور جون قرنق في نضاله من أجل المواطنة حارب العدو بلا هوادة، ولم يترك قائم سيف وأعقاب رمح والا وجهها في صدر الإقصائيين. من تجليات الصراع حول المواطنة، أعلنت الدولة المركزية حرب جهادية ضد الجنوبيين، تم تصنيف الدكتور جون قرنق بأنه صليبي كافر بل وصلت الحرب إلى درجة تصويره في الإعلام مخلوق اسود غريب مصاص دماء له قرون كالثور. هذا التصوير النمطي كله كان الغرض منه سحب حق المواطنة والشك في أهليته أن يكون جزءاً ممن لهم حق القيادة أو الرئاسة في الدولة السودانية.

حرب التنميط لا زالت في ذروتها وخاصة بعد اتفاق جوبا للسلام، وواضح اتفاق جوبا للسلام حركت مياه راكدة من الأعماق وحركت مدن كانت في سبات عميق وأخرجت أثقالها وقد علمتنا تجارب السياسة السودانية كلما ترتفع الأصوات ويكثر الضجيج الإعلامي كلما كان هناك تفاعلاً سياسياً من العيار الثقيل وهذا هو نفس الصياح والضجيج إبان الحراك الذي أحدثته الحركة الشعبية بقيادة الراحل جون قرنق.. السودان كما قلنا في مرحلة التحول ومرحلة نشأة الدولة الوطنية على أسس المواطنة المتساوية فإما الوحدة بالتراضى واما تجربة جنوب السودان ويجب ان نحرص على ألا ينفلت منا الوطن وأن نتحاشى تجربة الجنوب ولن يتأتى ذلك في ظل السكون والركود السياسي ولا بد من حراك نوعى في السياسة حتى لا نترك من بايدهم صكوك المواطنة يعبثون بمستقبل السودان. لكي نحافظ على قوة دفع ضرورية تدفع بالحراك السياسي نحو تشكيل سودان الغد من المفيد أن نهزم عنجهية وغطرسة دعاة الإقصاء بقدر عالى من التفاعل مع الأحداث والإمساك بخيوط اللعبة السياسية في الأولويات دون أن نهدر وقتاً في حروب ( دونكيشوتية) ويجب أن نتعامل مع الوضع بقدر كبير من البراغماتية في كلتا الحالتين، حالة الابتزازاً، وحالة الوفاق وإن كنا يوماً نعمل بمبدأ (أما حياة تُسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا)، أعتقد نحن الآن في مرحلة جديدة، مرحلة الوفاق ( منقو قل لا عاش من يفصلنا).

حرب التنميط قبيل وبعد سلام جوبا جاءت في سياق كثيف( highly contextualized)، بل أكثر ضراوة مما كان في فترة حرب الجنوب، الإعلام قبيل وبعد اتفاقية جوبا للسلام حاول أن يخلق صورة نمطية لأشخاص ومكونات اجتماعية هدامة غريبة الوجه واليد واللسان تسعى لقلب موازين القوة في الدولة السودانية. قرأنا مقالات للدكتور عبدالله على ابراهيم والصحفي زهير سراج ، والمنظر الشيوعي الدكتور طراوة و أنوفنا اُزكمت بروائح سوشيال ميديا المتنوعة التي تفوح منها العنصرية والكراهية، أمثال حياة عبدالملك و عمسيب. فعلاً حرب التنميط ظهرت بنزعة قوية ركزت سهامها حول رموز محددة ومراكز قوى بعينها. في إطار حرب التنميط الدكتور طراوة ينشر خبراً مفبركاً ضد ثلاث شخصيات من دارفور في مناسبتين مختلفتين ويضيف في قائمتهم الجنرال برهان من باب (تمومة جرتق) بالمثل السوداني الشائع. في احدى رواياته المفبركة يقول الدكتور طراوة فيما معناه أن الجنرال برهان وجنرال حميدتى، والسيد منى مناوى والدكتور جبريل يخططون لضرب قبائل دارفور. ويقول ايضاً الدكتور طراوة في مكان آخر مهاجماً نفس الشخصيات ،ونسى أن مصر ظلت تعتمد على الثروة السودانية ما يقارب قرن بتسهيلات من الحكومات السودانية بعد الاستقلال وفي حينها كان كل من حميدتي ومناوى وجبريل في رحم الغيب، ما الذي استجد الآن لكى يُنمّط هؤلاء انتقائيا.

ويقول الدكتور طراوة: “ابل السودان و نوقه العصافير ان تحالف برهان/حمدتي/جبريل/مني اركو/ و الفلول، سيواصلون نهب الموارد و الفائض الاقتصادي. هم ينزلون قوى الاقتصاد الريعي الذين لا يهمهم تصنيع، او إنتاج حيواني، او قوى إنتاج زراعي، و ليس ضمن حساباتهم سلاسل القيمة المضافة او تشغيل دورة اقتصادية كاملة”.

وفي مناسبات أخرى ضجت الاسافير بحرب تنميط قذر كلها موجهة أما ضد شخصيات دارفورية او قوى كفاح مسلح من دارفور وقالت إنّ حركات أفريفية دنست الخرطوم وأن شخصيات تشادية تريد أن تحكم السودان إلى وفي هذه الحرب وقع كثير من أبناء دارفور في مصيدة الأعلام ورددوا أقوالاً شبيهة بما يتفوه بها.

في خضم الصراع بين العسكر والحرية والتغيير ايضاً من الضروري أن نضع النقاط على الحروف ولا بد من معرفة أين موقع ضحايا الحروب من الإعراب؟ وهل الأصوات التي نسمع اليوم من بعض أبناء مناطق الحروب هم على وعي من مجريات الأحداث؟

في أعقاب ثورة 19 ديسمبر نشط العقل الإقصائي في حرب التنميط ولكن هذه المرة انتقل من الجنوب الى دارفور كما تنتقل البيادق على رقعة الشطرنج ولكن الاستراتيجية هى نفس الاستراتيجية التي ساقت الجنوب الى محطة الانفصال ولكن المؤسف بعض الضحايا لم تفهم الدرس حتى الآن وأصبحت سيوفهم مع العقل الذي ظل ينشط ليلاً ونهاراً لإقصاء الآخرين. .

وفي تقييم هذا الصراع من الأمانة أن نضع الحضور السياسي لثورة 19 ديسمبر في الميزان ، ما الذي حدث؟ ولماذا شارك أبناء الهامش في الاعتصام فقط كجنود ولم يشاركوا فعلاً في صناعة القرار السياسي؟ ما هو التوصيف الدقيق لثورة 19 ديسمبر ؟ هل هي شرعية ثورية أم شرعية دستورية؟

الذين احتشدوا أمام القيادة العامة من حيث العدد كان اغلبهم من أبناء ضحايا الحروب، والذين استشهدوا كان أيضاً معظمهم من الضحايا ولكنهم كانوا مجرد جنود foot soldiers يعنى كانوا وقود وسفود للثورة.

عندما أتت الثورة ثمارها وجلست الناس في الطاولة السياسية غاب أولئك الضحايا من التمثيل في تلك الطاولة ولم نسمع صوتاً الا صوت النضال المسلح عندما اضطرت أحزاب الحرية والتغيير للتفاوض مع الجبهة الثورية في أديس أبابا وكان للجبهة موقف واضح من تكوين أى حكومة فعلية قبل الوصول إلى السلام وفي النهاية قبلت الأحزاب بمقترحات الجبهة وانتهى الأمر باتفاق مكتوب بين الجبهة الثورية والأحزاب التي جاءت إلى أديس أبابا ولكن للأسف عندما عادت الأحزاب الى الخرطوم تنكرت ذلك الاتفاق وأبرمت اتفاق آخر مع المكون العسكري فولد جراء ذلك ابناً شرعياً لمكونين فقط هما المكون العسكري وأحزاب الحرية والتغيير والجبهة الثورية لا علاقة لها في كل خطوات الإعداد بما يسمى الوثيقة الدستورية ومن هنا بدأ نضال الجبهة الثورية باسم الهامش لأن في الوثيقة الدستورية تم تغييب الهامش تماماً فقط الذي شارك من الهامش بمكون واحد هو حميدتي بالرغم من أنه قاتل الهامش ولكن في النهاية هو من الهامش.

ولا ندرى السبب، ما الذي جعل أجسام الهامش لا وجود لهم في القرار السياسي، هل كان بسبب الجهل، أو عدم القدرة أو استحياء. للأسف كانت المشاركة حصرية لأحزاب المركز القديمة ولغرض التمويه طعموا الحكومة بأفراد من ابناء الهامش كعطية مزين.

في هذا الظرف المخل للتوازن، الجبهة الثورية وضعت شروطاً بما يجعل الوثيقة الدستورية خاضعة للمراجعة وخاضت تفاوض بشرط أن تعلو الاتفاقية على نصوص الوثيقة الدستورية وقد كان ودخلت الجبهة الثورية الخرطوم بوثيقة أخرى معروفة باتفاقية جوبا للسلام وهي أعلى مرتبة من الوثيقة الدستورية حسب المنطوق في النص.

الذي حدث صبيحة 25 أكتوبر كان خلاف بين الشريكين الذين تزوجا وانجبا ابناً شرعياً لهما يسمى بالوثيقة الدستورية وهما مسؤولان من وأد ابنهما وكانت النتيجة في النهاية وخاصة في الوصف السياسي الدقيق أقرب إلى فض الشراكة او كما جاء في تسمية الحكومة الأمريكية (الاستيلاء ). ولا غرابة، هذه الوثيقة جاءت مشوه وناقصة هكذا لانها نتاج شرعية ثورية وليست شرعية دستورية فكل طرف بما فيهم العسكر، يدعي بأن الثورة ملك له. وللعلم الخلاف بينهما لا ناقة للجبهة الثورية ولا جمل ولكن لحفظ ماء الوجه لجأت مجموعة الأربعة الى ترويج المشكلة كأنها انقلاب على الشرعيةٍ ، والكل يعلم جيداً هذه الشرعية ليست صنيعة الشعب السوداني إنما صنيعة مكونين لفترة انتقالية والشعب السوداني سيقول كلمته النهائية في صناديق الاقتراع والنتيجة تلقائياً تصبح شرعية دستورية وبعدها اى تدخل عسكري يكون إنقلاب وفق القاموس السياسي، حتى هذه اللحظة لم يقل الشعب كلمته الفاصلة وليس بشريك في تلك الوثيقة وللأسف في هذا الظرف الغامض بدأت أحزاب المركز الصياح وتفجير بالونات اعلامية وخلقوا للبعض عقلاً جمعياً لا يعي ولا ينطق فقط يردد وراءهم عبارات مثل المدنية أو الانقلاب كالببغاوات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى