هذه العبارة “السودان للسودانيين” ارتبطت في اذهان السودانيين بالسيد عبد الرحمن المهدي، وهو الشعار الذي كان قد رفعه علي أيام مخاض الإستقلال في مقابل الدعوة للوحدة مع مصر، ومع تقديري واعزازي للسيد عبد الرحمن المهدي، وبالتيار المهدي الأنصاري الإستقلالي الذي ولدنا وترعرعنا ونشأنا في كنفه، لكنني عندما أعدت الإستماع إلى آخر خطاب للزعيم الراحل الدكتور جون قرنق دي مبيور، وجدت أن ما طرحه الراحل قرنق كان أعمق من أي دعوة لسودانوية سابقة كانت أو لاحقة، وجاء في مختصر كلمة السيد قرنق “لماذا يصر البعض علي أننا عرب، ولماذا يصر بعض آخر علي أننا افارقة، ولماذا يصر البعض علي أننا مسلمون، ويصر آخرون علي أننا مسيحيون، فالعروبة لا تجمعنا، والأفريقيانية لا تجمعنا، والإسلام لا يجمعنا، ولا تجمعنا المسيحية، السودان والسودانوية وحدهما اللذان يمكن أن يجمعانا، هكذا خلقنا الله، فالله خلق العرب، وخلق الأفارقة، وخلق النوبة، وخلق البجا، فلماذا نريد أن نغير خلق الله، ونصر أن يكون الجميع شيئا واحدا، فدعونا نتخلي عن الأفكار المجنونة التي تدعو إلى تغيير خلق الله، وهذا ما لا يرضاه الله رب العرب والافارقة، ورب كل قبائل السودان الخمسمائة، التي لا يجمعها اسم واحد غير السودان، فدعونا نعيش سودانيين أخوة يجمعنا وطن واحد، وليس في ما أقول رفض للإسلام ولا العروبة، فالاسلام دين غالب أهل السودان، والعربية ثقافتنا جميعا، ولكن الذي يجمعنا كلنا هو السودان، ولا شئ غير السودان”
وبعد أن استمعت إلى هذا الخطاب اليوم أكثر من مرة، تأكدت أن الدكتور جون قرنق مات مقتولا، ولقد قتله أعداء السودان الوطن الواحد الموحد، ورغم أن هذه القناعة ليست جديدة، ولكنها صارت أكثر رسوخا، وادركت اليوم لماذا لم تظهر نتائج تحقيق مصرع قرنق في الطائرة الخاصة التي كانت تقله وحده بعد لحظات من اقلاعها من مطار كمبالا عاصمة يوغندا، ولن تظهر هذه النتائج أبدا، ولن يسأل أحد عن من قتل جون قرنق، فلن يسأل عنه السودانيون، شماليون، أو جنوبيون، ولن يسأل عنه أحد غيرهم، فمصرع قرنق كان أعنف صفعة لطم بها خد الوحدة السودانية.
وبعد سماع هذا الخطاب، ادرت شريط الذكريات، ووقفت عند لقائي الأول والأوحد المباشر مع الراحل الدكتور جون قرنق عام ٢٠٠٤م في منتجع نيفاشا رفقة مجموعة من الزملاء رؤساء التحرير، وضم الوفد الزملاء الأساتذة فضل الله محمد، محي الدين تيتاوي، كمال حسن بخيت، أحمد البلال الطيب، عبد المحمود نور الدائم الكرنكي، محمد محمد أحمد كرار، عادل الباز، محمد الطيب، الطيب قسم السيد، وكان قد نظم الرحلة المستشار الصحفي للرئيس في ذاك الزمان الأستاذ محجوب فضل بدري، ومساعده وساعده الأيمن ناجي علي بشير، وفي اليوم الثالث لوصولنا إلى العاصمة الكينية نيروبي اخذونا إلى منتجع نيفاشا لمقابلة رئيسي الوفدين الأستاذ علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس الجمهورية في ذاك الزمان، ورئيس الوفد الحكومي، والدكتور جون قرنق رئيس الحركة الشعبية، ورئيس وفدها المفاوض، وكان من المقرر أن نقابل السيد علي عثمان أولا، إلا أن الاستعدادات العالية، والتنظيم الدقيق والمنضبط جعل لقاءنا مع الدكتور جون قرنق يكون أولا، وكانت تلك أول وآخر مرة أجلس فيها مباشرة للدكتور جون قرنق، لا يفصل بيننا فاصل، وأول ما لفت نظري فيه، اناقته الزائدة، فلقد غير شكل الغابة تماما، وتحول إلى إنسان مدني، كامل المدنية، وكان حريصا علي التحدث باللغة العربية، حتى أنه عندما كان يسأله البعض باللغة الإنجليزية، كان يرد عليهم باللغة العربية، وكان يفعل ذلك الأخوان الكرنكي وعادل الباز، وأذكر عندما سأله الأخ الأستاذ أحمد البلال الطيب عن شوقه للسودان، اجابه “أنا الآن جاي من السودان، ولا نيو سايد ما سودان” وضحك، ثم اضاف “أظنك تقصد الشمال، أنا فعلا مشتاق للخرطوم، وتحديدا الحاج يوسف محل كنت أسكن، ومشتاق لجاري النجار، وزبوني الجزار” ثم اضاف “نحن طوينا خلاص صفحة الحرب، وقررنا نقعد هنا ونتفاوض حتى نصل للسلام، وكلمنا أصحابنا في كل دول العالم، قلنا ليهم خلاص نحن قررنا ننهي الحرب، وبعد كده ما عايزين سلاح، ولا عايزين ذخيرة، العايز يساعدنا يرسل لينا حاجات بناء وتنمية وإنتاج”
ان الشعار الذي رفعه الدكتور جون قرنق دي مبيور “السودان للسودانيين” واغتيل بسببه، يجب علينا أن نرفعه جميعا اليوم، ونعمل معا من أجل تحقيقه، فالسودان وحده الذي يجمعنا، والسودانوية وحدها التي توحدنا، ولكن أين هو الزعيم الذي يحيى ذكري الراحل جون قرنق، ويكون مستعدا لأن يدفع روحه ثمنا لوحدة السودانيين جميعا.