بروفيسور إبراهيم محمد آدم يكتب : أيها الانجليز لكم في نصبنا نصيب(4-5)

 
كما انتهينا في مقالنا السابق ابتدر الإنجليز  التعليم على الطريقة الغربية مع اختيار شخصيات ذات كفاءة أقل لتولى المناصب كما أفاد الأديب والإعلامي  الراحل معاوية محمد نور،  فبعد أن تخرج في كلية الآداب التابعة للجامعة الأمريكية في بيروت حين  تخلى عن دراسة الطب في كلية غردون التذكارية عاد وتقدم للالتحاق بإحدى الوظائف في الخرطوم و اجتاز  الاختبار بنجاح وعندما همَ بالخروج سمع أعضاء لجنة المعاينات يتهامسون فيما بينهم (Not the type , too clever  ) مما يعني أنه ليس الصنف المطلوب فتم استبعاده من المنافسة لنبوغه وليس عجزه، ولربما كان هذا أحد أسباب مرض معاوية وموته لاحقاً ومن بين قصصه القصيرة قصة إيمان، ونشرت في السياسة الأسبوعية في 13 سبتمبر 1930 وهي قصة احتوت على نبوءة مبكرة لمصيره الشخصي حيث انتهى معاوية نفسه إلى النهاية ذاتها التي آل  إليها بطل القصة بعد حوالي إحدى عشر عاماً من كتابتها.
بعد تلك الحادثة  انتقل معاوية إلى القاهرة ليعمل بالصحافة وعين محرراً بجريدة مصر ومشرفاً على صفحاتها الأدبية والتي تضمنت الكثير من مقالاته وأبحاثه وقصصه. وتعرف هناك على الأديب المصري الشهير عباس محمود العقاد الذي كان معاوية أحد رواد ديوانه وجليساً راتباً له وقد  قال عنه قولته المشهورة في السودان (لو عاش معاوية لكان نجماً متفرداً في سماء الفكر العربي) كما كتب عنه العقاد قصيدة تأبينية رصينة خلال إحدى زياراته للسودان.
وذات الشيء فعلوه مع كثيرين ومن بينهم البطل علي عبد اللطيف فأصيب في نهاية المطاف بجملة أمراض وللمفارقة كرمته القاهرة أكثر من الخرطوم وبنت مدرسة باسمه يجاور مقرها السفارتين البريطانية والأمريكية بحي قاردن سيتي بالقاهرة، بينما كان سقفنا نحن في تكريمه شارع صغير باسمه تقع به عمارة الإداري الشهير  كمال حمزة التي كانت في السابق مقراً للسفارة الأمريكية بالخرطوم قبل انتقالها لضاحية سوبا  .
ذلك ببساطة لأن الإنجليز في دواخلهم – وإن تظاهروا بغير ذلك – لا يضعوننا في أكثر من مقام العبيد الذين يجب تسخيرهم لخدمتهم فقد أرسل سلاطين باشا أحد  أشهر رجال الاستعمار الإنجليزي للسودان رسالة إلى صديقه بيجي عام 1897 ( بحسب وثيقة محفوظة في أرشيف السودان بجامعة دارام البريطانية تحت الرقم 438/653/3 يقول فيها : ( إن السود هم خنازير بائسة لا يستحقون أن يعاملوا كرجال أحرار مستقلين).
إن مآسي الانجليز في السودان قد أصبحت عنوان كتاب لأحد المؤلفين المصريين تحدث  فيه عن كيف زرع شركاؤهم  قنابل موقوتة في السودان بعد أن رمونا بأدوائهم وانسلوا، فعندما يتحسرون على انفصال الجنوب فإنهم يتناسون منكر فعلوه وهو سياسة المناطق المقفولة التي كانت تلك إحدى ثمارها المُرة، فهاتيك السياسة قد طبقوها بإحكام في جنوب السودان، جبال النوبة، جنوب النيل الأزرق  وأقصى شمال دار فور لذلك انفصل الجنوب ولا تزال بقية المناطق المشار إليها مشتعلة ويتعهدون القائمين على أمر النزاع فيها بالرعاية الكاملة،إنهم من افترع التنمية غير المتوازنة التي ركزت على مصالح الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس، ثم أوحوا لقاطني تلك المناطق أن تنادوا للثورة لأنكم مهمشون.
إن سياسة فصل الجنوب قد رسمها السير هارولد ماكمايكل السكرتير الإداري لحكومات السودان الانجليزي والذي كما أشرنا سابقاً قد ألف كتاباً اعتمدت عليه حكومته في إدارة السودان اسماه ( تاريخ العرب في السودان ) في ذلك الكتاب  تبنى ماكمايكل سياسة مناهضة لعقيدة أمومية نظم توريث النوبة التي ساد بها العرب المسلمون على النوبة في الشمال، وكان ماكمايكل نفسه ممن أذاع  هذه المعلومة، ومعلوم انه كان لُب سياسة المناطق المقفولة المشار إليها هي النأي بها عن الشمال العربي المسلم ، ويبدو هنا اتعاظ الانجليز بمسلمة توريث ابن الأخت وغلبة العرب على النوبة فصمموا ألا يتكرر ذلك فيتعرب به الجنوب ويتخذ الإسلام ديناً، ولكي يمنع الإنجليز استنساخ هذا الفتح الإسلامي في الجنوب ألغوا نظام النسبة عن طريق الأم على طائفة من مجتمعات الجنوب كما أشار إلى ذلك الدكتور عبد الله علي إبراهيم نقلاً عن البروفيسور محمد عمر بشير.
ولعل روبرتسون الذي اشرنا إليه في هذه السلسلة هو عراب التراجع عن سياسة المناطق المقفولة، ففي سعيه لتنفيذ السياسة الجديدة نجده يقول : ( أنه على حكومة بريطانيا من الآن فصاعداً أن تبني أعمالها وتصرفاتها على التسليم بأن من صفات سكان الجنوب الأساسية أنهم زنوج أفريقيين، إلا إن العوامل الاقتصادية والجغرافية قضت بربطهم بالمستعربين من أهل الشمال ربطاً لا انفصام فيه ).
وقد لاقت سياسة روبرتسون تلك تشجيعاً وتأييداً من قبل الكثيرين من الإداريين البريطانيين فقد كتب مفتش مركز راجا الذي وصف تلك سياسة المناطق المقفولة بالفشل قائلاً أنه من العبث وإضاعة الوقت أن تستوقف شخصاً ما اسمه آسن (حسن) أو اسمه آمد ( احمد)  ثم تتحقق من اسمه القبلي وتعتمده في الأوراق الثبوتية مع العلم سلفاً أنه بمجرد خروجه من مكتبك سيظل معروفاً عند أهله باسمه العربي وليست بنجيربايا أو هجيركودو  وما إلى ذلك من الأسماء القبلية التي حاولت أن تلزمه باستعمالها).
ثم أن الانجليز هم  من اختلق مشكلة حلايب التي أصبحت قُصة في حلوقنا، وهم من زرع مشكلة آبيي ليستمر النزاع حتى بعد انفصال الجنوب، وهم من ضموا إقليم بنى شنقول إلى أثيوبيا وهم من أضاف مثلث أليمي إلى كينيا وبذلك أصبحت حدودنا كلها ملغومة لا تصلح إلا لتبادل المتمردين بدلاً عن التبادل التجاري المفيد  الذي تسعى إليه أوربا بين مكوناتها التي تعدت ثلاثاً وخمسين دولة منها ثمانية وعشرون في الإتحاد الأوربي.
لم يكتف الإنجليز بتغيير حاضر لنا رسموه بل عمدوا إلى تشويه تاريخنا فعهدوا بكتابته إلى نعوم شقير السوري وقلم المخابرات والذي ألف كتابه الأشهر (جغرافية وتاريخ السودان) وهو الوافد للبلد ممتطياً موجة الاستعمار، وليس المواطن الأصيل ويستوي في ذلك معه أيضاً ادوارد عطية ضابط المخابرات الأشهر ولعل هذا ما جعل معظم المؤرخين السودانيين لاحقاً مثل محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه ( السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل)  و مكي شبيكة ( السودان عبر القرون)  والتيجاني عامر ( أم درمان ) ومؤرخون آخرون يقتبسون من شقير وعطية ولذلك كان لبعض المثقفين رأياً في أولئك رغم ما بذلوه من جهد عظيم في تقديري  الشخصي، لذلك نجد شخصاً مثل الشاعر الكبير الراحل محمد المهدي المجذوب يقول حسب ما ورد في كتاب السفير الراحل على أبو سن ( المجذوب والذكريات ) إن أهل السودان أصلاً يجهلون تاريخهم،  وقد ازدادوا جهلاً عندما قراؤه عن فلان.يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى