محمدين محمد اسحق يكتب :-  الحصة وطن (٣-٣)

 

 

كنا قد تحدثنا في الحلقة الاولي عن النتائج الكارثية التي نتجت عن الثورة المسلحة في دارفور، والحسابات الخاطئة من كل الأطراف وخروج القضية من ايدي أبناء الوطن الواحد لتصبح في يد الاجنبي، ولا زلنا نشهد تأثيراتها السالبة من ناحية النزوح واللجوء والانفلات الأمني في الإقليم رغم سقوط النظام البائد.

وكما تحدثنا في الحلقة الثانية عن ان دخول اطراف العملية السلمية في العراك السياسي بين المكون العسكري والمدني ساهم في زيادة حدة الخلافات والتي انتهت الي فراق بينهما والتي توجت باستقالة رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك بسبب التظاهرات الداعية إلي إسقاط الاتفاق السياسي بينه وبين عبد الفتاح البرهان.

 

من الواضح أن القوي السياسية الدافعة باتجاه التصعيد الجماهيري في الشارع تراهن علي عدة أشياء منها إعادة مشهد الثورة الشعبية العارمة التي أطاحت بحكم الدكتاتور عمر البشير، عبر التظاهرات، كما انها تأمل في ان استمرارية هذه التظاهرات المتتابعة ستؤدي الي انهاك المنظومة الأمنية، واستنزاف مواردها المالية والبشرية مما يجعلها تحقق في النهاية ما تصبو اليه من إزاحة المكون العسكري من الساحة. فيما نري الان تحول هذا المظاهرات لتكون اشبه بحرب الشوارع، فبات مشهد قذف عناصر الشرطة بالحجارة عاديأ، وفي المقابل ترد الشرطة بالغاز المسيل للدموع والعنف المفرط، وسط تقارير تتحدث عن استهداف المتظاهرين بالرصاص الحي الذي نتج عنه قتلي، فيما تتحدث تقارير اخري عن جهة ثالثة تقوم بعمليات قنص المتظاهرين بغرض تحويل مشهد التظاهرات السلمية المعتادة الي حروب شوارع مباشرة بين قوات الشرطة والشارع المحتج. هذا السيناريو قد يتطور ليصبح مقاومة مسلحة في شوارع الخرطوم بين قوات الأمن وعناصر مدنية ثورية، وحينها ستفقد الثورة سلميتها المعهودة، وتصبح تمردا يعطي السلطة الحاكمة المبرر للحسم العسكري واستعمال الحل الأمني العنيف مثلما حدث في دارفور. وهذا في حد ذاته قد يعطل الفترة الانتقالية ويعطي الشرعية للعسكر في الاستمرار بتعطيل مسار الانتقال الديمقراطي، وتطبيق قوانين الطواريء والأحكام العرفية في البلاد.

 

هذا السيناريو المخيف لا يمكن استبعاده في ظل وجود قوي وجهات متعددة لا تريد للتحول الديمقراطي ان يتم في السودان، ولا يهم هذه الجهات ان تدخل البلاد في اتون حرب تحرق ويحترق فيها الجميع!

 

الحقيقة التي يغفل عنها بعض الناس ان ضمانة عملية الانتقال الديمقراطي تتطلب وحدة القوي السياسية من ناحية، ومن الناحية الاخري وحدة هذه القوي مع المكون العسكري الذي شارك في عملية الاطاحة بنظام المؤتمر الوطني، وهو قد عمل علي حقن الدماء من أن تسيل في شوارع الخرطوم، في وقت كان يخطط ويعمل فيه رأس النظام المعزول علي قتل ثلث الشعب ليستمر في حكمه علي جماجم الأبرياء وصرخات الثكالي، فهو قد اعترف بقتل ١٠ ألف مواطن في دارفور بدون وجه حق، الأخيرة هذه هي كلماته، بينما التقارير الدولية المحايدة تتحدث عن مقتل أكثر من ٣٠٠ الف مواطن. بالتالي انا اعتقد ان انحياز قوات الشعب المسلحة وقوات الدعم السريع وقوات أمنية اخري الي صفوف الثوار اجهض مخططات البشير الدموية تجاه الشعب.

 

ويبدو هنا أن القوي السياسية لم تستفد من دروس الماضي في تاريخ السودان الحديث، إذ كان التشاكس بين بعضها البعض، هو المدخل الذي كان يستغله انقلابيو ومغامرو الجيش في إجهاض اي ديمقراطية قائمة او قادمة.

 

المرحلة الانتقالية الحالية تحسب لها في انها جمعت توليفة عسكرية- مدنية، يمكن لها ان تصل بالفترة الانتقالية الي بر الديمقراطية، وذلك عكس ما حدث في فترة المجلس العسكري الانتقالي في العام ١٩٨٥ بقيادة الراحل المشير عبد الرحمن سوار الذهب، والذي حكم البلاد الي قيام الديمقراطية الثالثة التي اطاح بها انقلاب الجبهة الاسلامية والذي استفاد من أجواء الصراع بين القوي السياسية.

 

وقريب من هذا حدث في أول انتخابات بعد الاستقلال، والتي اتت بالزعيم اسماعيل الازهري رئيسأ للوزراء ولم يلبث في السلطة الا أشهرأ معدودة، فسقطت حكومته جراء صراع داخلي بينه وبين زعيم الختمية الروحي السيد علي الميرغني فانشق الاتحاديون بسبب ذلك الي حزب الشعب بقيادة علي الميرغني والحزب الاتحادي الوطني الديمقراطي برئاسة الازهري، مما أدي صعود عبد الله خليل وحزب الأمة الي السلطة، لكنه ما لبث أن سلمها بسبب الخلافات بين الأحزاب السياسية الي الجنرال ابراهيم عبود. وللغرابة فإن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو سقوط عبود بثورة أكتوبر المجيدة في العام ١٩٦٤، والذي حاول الاستمرار في حكمه بعيد الثورة، لكن وحدة القوي السياسية وقتها من اقصي يمينها الي اقصي يسارها لم تجعل له مجالأ الا تسليم السلطة الي القوي المدنية كاملة الدسم، والتي سلمتها لحزب الأمة الفائز في انتخابات عام ١٩٦٥، لكن مرة اخري تطفو الخلافات السياسية الي السطح، وهذه المرة بين جبهة الميثاق(الاخوان المسلمين) والشيوعيين، ونتيجة للمكائدات والسعي وراء الكسب السياسي الضيق، تم ابعاد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان بسبب حادثة فردية تهجم فيها طالب شيوعي علي ما اعتبر مسأ ببيت النبي(ص)، وكان رد الشيوعيين بدعم ومساندة انقلاب مايو بقيادة جعفر النميري. وهكذا يقوم الساسة كل مرة بتكرار نفس الأخطاء المريرة التي تؤدي في النهاية إلي استلام الجيش للسلطة.

 

نفس هذه الاطماع تجلت ووضحت وقتما كانت قوي الحرية والتغيير- المجلس المركزي هي الممثل المدني في السلطة، فارادت الاستحواذ علي كامل القسمة المدنية لتكون حكرية لها او للتنظيمات المنضوية تحتها بما فيها الأطراف الموقعة علي سلام جوبا.

نفس المطامع والمطامح الحزبية الضيقة تجلت قبل وأثناء وبعد مفاوضات جوبا، وما يدعو للاستغراب ان قحت كانت في مراحل مختلفة من التفاوض تعمل علي إعاقة العملية السلمية باعذار واهية. في الوقت الذي كان فيه المكون العسكري يبدو هو الأكثر حرصأ علي انجاز السلام وإيقاف صوت البندقية.

 

عودة الي بدء ان اعتماد قحت- المجلس المركزي علي آلية التظاهرات الحالية للاطاحة بالمكون العسكري، تبدو غير مجدية في ظل متغيرات عدة يمكن ملاحظتها، أهمها ان الشارع ما عاد شارعأ واحدأ، والأنكي من هذا رغم سيطرة واجهات قحت المدنية علي دعوات وتنظيم التظاهرات، يبدو أنها باتت لا تملك السيطرة الميدانية عليها. واصبحت هذه التظاهرات أقرب للفوضوية من السلمية، ولا ادل من ذلك حوادث طرد قيادات من قحت والاعتداء عليهم أثناء مشاركتهم في هذه المظاهرات.

وهذا هو مكمن الخطر فالشارع المتحرك الان لا تقوده قيادة واضحة والامور تكاد تفلت ممن ينادون للخروج والتظاهر ضد العسكر.

 

دعوة الامم المتحدة للحوار (السوداني- السوداني) والتي أطلقها ممثل الأمين العام للامم المتحدة ورئيس بعثة اليونيتامس الالماني بيرتس فولكر بالامس تعتبر مؤشرأ علي تخوف القوي الدولية من خروج الأوضاع في السودان عن السيطرة التي قد تؤدي الي حدوث تهديد للسلم والامن الاقليميين. دعوة فولكر لانهاء العنف بقدر ما هي موجهة في الظاهر الي السلطات الأمنية بوقف قمع المتظاهرين، الا انها رسالة مبطنة للقوي السياسية التي تدعو للتظاهر بوقفها والسيطرة علي العناصر التي تجنح للعنف تجاه عناصر الشرطة، والدعوة الي سحلهم والاعتداء عليهم، وهذه اشياء يصعب الدفاع عنها، حتي لو كانت القضية نبيلة وعادلة.

 

النقطة الجديرة بالاهتمام هنا كذلك انه يبدو ان هناك إجماع دولي علي مسألة الحوار السوداني- السوداني، وبمشاركة الجميع ما عدا المؤتمر الوطني او من يرفضه بتلقاء نفسه، والجميع هنا تشمل المكون العسكري وقوي الحرية والتغيير/ المجلس المركزي والميثاق الوطني والقوي المدنية والشبابية وكل أصحاب المصلحة في التغيير والانتقال الديمقراطي.

وعلي العكس من ظن البعض ومن بينهم بعض اطراف العملية السلمية، من أن تدخل الأمم المتحدة سيكون مباشرأ ووفق أجندة منحازة لطرف علي طرف، أكد فولكر ان دور المنظمة الدولية سيقتصر علي جمع ودعوة القوي والتنظيمات السودانية للوصول الي حل يضمن التحول الديمقراطي السلمي في البلاد.

في اعتقادي ان القوي الرافضة للحوار داخل الحرية والتغيير- المجلس المركزي، ستجد نفسها في موقف لا يحسد عليه. ولكن يصبح الأمل معقودأ علي الجناح المعتدل داخلها الي العودة الي المشهد والمشاركة بفاعلية في الحوار (السوداني- السوداني) بشكل يجنب البلاد مزالق الفوضي التي تمضي إليها. وكما يقول المثل الغربي: (خطئان لن يصنعا صوابا واحدا)- و بكلمات اخري فان تكرار الأخطاء التاريخية الماضية بالاصرار علي تحقيق المكاسب الحزبية الضيقة لن تؤدي الي ديمقراطية انما الي انتكاسة عنها، وحينها لن يفيد البكاء علي اللبن المسكوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى