علاء الدين محمد عثمان يكتب : البرهان في جوبا … ذهبت للمفيد وجئت بالمفيد

الخرطوم الحاكم نيوز

جودة تلك الجميلة الهادئة بين الرنك والجبلين والتي لولا مأساة العنبر اللعينة “عنبر جودة” الذي مات فيه ما يزيد عن ثلاثمائة مزارع تم إدخالهم في عنبر مغلق، ماتوا جميعًا من الاختناق، ولم ينج منهم غير واحد، فتح جدار الزنك بسكين وضع أنفه فيه، لما سمع بها أحد، وأخيراً اختارها القدر لتكون الحدود وطالها الانفصال حقيقة لا مجازاً فأصبحت جودة شمال وجودة جنوب.

تداعت إلى مخيلتي هذه القصة الحزينة وأنا أستمع إلى كلمة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس السيادي في عاصمة جنوب السودان “جوبا” في افتتاح جلسة التفاوض بين الحركة الشعبية، بلغته البسيطة السهلة المباشرة، التي تدخل إلى الوجدان، وفيها العديد من الإشارات المهمة واللماحة، ومنها على سبيل المثال، أن العمل يجب أن يكون بفكر استراتيجي يؤسس المستقبل للأجيال القادمة، ويرسل رسالة في غاية الدقة، أن الجيل الحالي، سوف يفسح الطريق لأجيال قادمة “نحن ما خلاص” ولعله وقتها كان يستدعي المقولة المنسوبة إلى الأمام علي كرم الله وجهه “ربوا أولادكم لزمان غير زمانكم” وهي أن تؤسس للأجيال القادمة ليعيشوا زماناً أنتم لستم جزءاً منه، وليت المخرج كان ذكياً بما يكفي ليوجه الكاميراً إلى وجوه المذكورين لنرى ما علاها من انطباع…

أما الجزئية التي جعلتني أتناول الكلمة بالتعليق فهو حديثه عن الحدود، فقد قال الرئيس كلاماً حكيماً،  أننا لا نريد مواطنينا الذين يعيشون على الحدود، أن يشعروا بأنهم يعيشون في دولتين، وذلك بقوله ” أنا داير أقول نحن صحيح بقينا دولتين ولكن ما دايرن الناس الفي الحدود يشعروا إنو في حدود بيناتن، احسو بأنهم في دولة واحدة، كلنا سوا، مراحنا بشرب من بحر واحد، عيشنا الفيتريتة دي بناكله سوا كلنا ما عندنا فرق” ” وزي ما أخوانا في جنوب السودان حريصين نحن نعيش في سلام نحن برضو حريصين هم يعيشو في سلام، نحن حرصين بأنو ما تحصل مشاكل، نحن عايزين نتعاهد معاهم تاني أي زول شايل سلاح في الحدود نحن الاتنين نمسكو سوا، نقبضو سوا، ومانخلي زول يشيل بندقية بينا وبينهم، دا كلام دايرين نعمل عليه من الليلة”….

السيد الرئيس بحديثك عن الحدود وحراسة الحدود، وكما يقول الشباب “جبت الزيت” يعني جبت المفيد، وهي مهمة ليست باليسيرة، عليه بدأت مقالتي باستدعاء التاريخ وسردت مأساة عنبر جودة التي صارت الآن أهم المعابر بين الدولتين، وكانت هناك مقترحات أن تنقل العاصمة إلى هناك حفاظاً على الموحدة، ولم يحدث وظلت جودة تُذكر بمأساة الضحايا، وهي بالتأكيد ذكرى حزينة، وبكل أسى سيدي الرئيس أن الحدود تميزها مثل هذه المآسي، فمأساة جودة والصراع في أبيي، والمذابح المتبادلة في بعض المناطق، وغير ذلك كثير، تحتاج إلى جهد كبير لتغيير المزاج، وتجاوز هذه الذاكرة الحزينة، وهذا لا يتأتي إلا بزراعة الفرح على طول الحدود كما تفاءل السيد الرئيس…

هذه الحدود سيدي الرئيس تمتد إلى ما يقرب الألفي كيلومتر، تعداد سكان على الشريط الحدودي على الجانبين ما يقارب العشرين مليون شخص، أي ما يقارب ثلث سكان الدولتين مجتمعين، وتمثل شريط السافنا الغنية وحزام الصمغ العربي، فموارد هذا الشريط لو استغلت بنجاح ستكفي احتياجات السكان في الدولتين دون أدنى شك…

ولكن هناك من سينفث في نيران الفتن، المكان ملئ بأوكار الأفاعي، أخطر هذه الأفاعي التي لدغتها والقبر، هذه المليشيات المسلحة التي تجوب البلاد شرقاً وغرباً، وهناك من يدعم بالأموال وهناك من يمد بالسلاح، حتى تظل نار الفتة منقدة، فقد آن الأوان لتطلع القوات المسلحة في الدولتين كما قال البرهان “أي زول شايل سلاح على الحدود، نحن نقبضو وسواً” هذا تؤمن الحدود ويمكن بعدها الشروع في محو الذاكرة الحزينة بالتنمية وزرع الفرح…

ولعل الرئيس سلفاكيير كان حكيماً في كلمته وهو يستخدم الرمزية عندما قال بعربي  جوبا، وجرسها المحبب، وحسناً قالها بعربي جوبا وليس بالإنجليزية وإلا لفقد بعدها الاجتماعي “لو مشيت لي بيت أخوك، وأخوك عندو كلب، كان ما مسكوا بجري ليك وبجي بعضيك، وبعدين لما تقعد وجاب ليك أكل، بجي جنبك ويعمل ضنبو كدي عشان تديهو حاجة، هل وصلت الرسالة سيدي الرئيس، إن في بلدك كلب مسعور، وإن لم تلجمه وتحبسه فلن يطمئن في السودان أحد، خوفاً من عضته أو نهب ما في يده…

سيدي الرئيس هناك قناعة راسخة بأن الانفصال بين الجنوب والشمال، هو انفصال سياسي، ولكن الشعب واحد والوجدان واحد والذاكرة التراثية والتاريخية واحدة، بل أن هناك مؤسسات ثقافية تمردت على الانفصال، قاد التمرد اتحاد الكتاب السودانيين، بعد أن بذل مجهوداً لتحقيق الوحدة، وبعد الانفصال ظل الاتحاد بكامل عضويته من الجنوبيين والشماليين، وظل فرع الاتحاد في جوبا، مثله مثل فرع الدمازين والقضارف، ومدني، ويحضرون الجمعية العمومية ويترشحون ويصوتون، ومن المحتمل أن يكون رئيس الاتحاد القادم من جنوب السودان، وهذه المؤسسات الثقافية هي التي ستمد جسور التواصل وينبغي دعمها لتستمر في رسالتها…

سيدي الرئيس اقطعوا رأس الأفعى، يسلم الوطن، وتعود جودة نقطة للتواصل، لا للتكدس كما يحدث الآن.    

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى