في رحيل عبد الرحمن سر الختم – قفا نبكي إذ أفل النجم

كتب : بروفيسور إبراهيم محمد آدم- استاذ العلوم السياسية بجامعة بحري

شواغل الدنيا وطوارئها المتعددة ابعدتني عن الكتابة الراتبة في الصحف والمواقع الإلكترونية في ظل حياة أصبحت ترمينا بالكآبة من كل اتجاه، واصبح الموت فيها يشكل حضوراً يومياً، لتتوالى الاحزان خلف الاحزان، وقد اختطف الموت في ظل نشاطه هذا سعادة الفريق أول ركن عبد الرحمن سر الختم الوالي والوزير والسفير وحادي العمل العام في السياسة والرياضة والثقافة، وقد حزنت جداً أن اقلاماً كثيرة كان يرعاها الراحل في كل مواقف حياتها، لم يفتح الله عليها ببنت لوحة مفاتيح كتابة في حقه، وجزى الله رفيق حياته في سنيه الاخيرة الشاب الخلوق العقيد هيثم مأمون الذي كتب مقالاً مستحقاً عنه اغناني عن سرد كثير من المعلومات.
كان اول لقاء لي معه قد بين لي صورة ذلك القائد المحترف الذي حينما قدم لنا تنويراً عسكرياً، عن اوضاع كانت ماثلة يومها، لم يزد مدير جامعة جوبا حينها البروفيسور سبرينو برنابا فرج الله أن قال (This is typical general )، وتلك حقيقة لا غبار عليها فقد كان معلماً بالكلية الحربية ومن اميز الضباط ثقافة في الاسلحة بأنواعها المختلفة ،كما صال وجال في ادغال جنوب السودان، وأسس مركز جبيت لتدريب وتاهيل المشاة وكان قائداً لفرع التوجيه المعنوي برئاسة الاركان ثم وزيراً للدفاع، و ادارياً متميزاً في العمل العام، عركته وصقلته التجارب والخبرات، وعرفته كافة المنابر وزيراً و والياً و سفيراً، وقد وجد اهل الثقافة و الفن خير من يعينهم على أداء مهامهم فيكفي أنه من مدني الخير والفن والجمال وفوق ذلك قد تشرب من معين الطيبة والمحنة من قلب الجزيرة قرية مساعد، كما وجد أهل المستديرة بكل احجامها وأنواعها، رياضياً مطبوعاً لم يشق له غبار، برع وأجاد وادهش وسمي بالمدهش عندما كان رئيساً لنادي الهلال، كما وجد كل الرعايا والمتعاملون معه خير من تولى شأنهم في كل المواقع التي تسنم ذراها.
كان لي شرف العمل معه لمدة عامين عندما قدم الى سفارتنا بالقاهرة خلفاً للسفير عبد المنعم محمد مبروك.احدث الراحل حينها نقلة مهمة في عمل البعثة قوامها العمل الجماعي وعقد مؤتمراً أول لبعثتنا في القاهرة و أسوان والاسكندرية .ناقش ذلك المؤتمر عدة اوراق تختص بشأن العلاقة مع مصر سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً وامنياً من خلال تجارب الاقسام والملحقيات والمستشاريات المختلفة وعلى مدار يومين هما الخميس والجمعة، وحتى صلاة الجمعة اديناها داخل السفارة وكانت تلك أول وآخر صلاة جمعة في ذلك المسجد كلفني حينها بإمامتها .
كان سر الختم رجلاً نشطاً وخلاقاً ومبدعاً ومدهشاً فقد يسر للجميع سبل العمل وحقق اختراقاً مع كافة الجهات الرسمية بما فيها القوات المسلحة المصرية وزار أماكن تجمعات الجالية السودانية في كل انحاء مصر تقريباً من اسوان الى الاسكندرية و السويس حيث كان يعمل اثناء فترة حرب الاستزاف وهو احد ابطالها في سيناء وساحل البحر الاحمر، وامتدت رحلاته الى مرسى مطروح حيث رتب لكيفية جلاء السودانيين العالقين هناك بعد ثورة فبراير 2011م في ليبيا، والتي اطاحت بالعقيد معمر القذافي من الحكم والحياة معاً ،وقد مكثنا اياماً في مرسى مطروح حيث تم تفويج السودانين عبر أسوان الى الخرطوم في اكثر من عشرين رحلة بالبصات السفرية الكبرى وبالباخرة الى بورتسودان عبر الاسكندرية والسويس وقد كان بحق عملاً ضخماً.
اما الجالية السودانية في اسوان والصعيد فقد كان نصيبها من الاهتمام وافراً حيث شهدت الحدود ايضا عناية كبرى بعد اقامة معبر اشكيت الجاف الذي حضرنا افتتاحه في موقعه بحضور الوفدين السوداني والمصري وهنا كاد احد الضباط المصريين ان يتسبب في ازمة بين البلدين لولا تدخل السفير سر الختم وحله لسوء التفاهم بحكمته المعهودة، في تلك الرحلة ولتتبع كيف تعمل تجارة الحدود والتواصل الشعبي امتدت رحلتنا بالطائرة من القاهرة الى اسوان، ثم بالمعدية والعبارات من خلال بحيرة ناصر ثم بالسيارات من قسطل الى اشكيت والعودة بذات الطريقة واستغلال الباخرة من أسوان الى الاقصر وبالقطار الى القاهرة أى اننا قد جربنا سبل المواصلات الأربع في رحلة واحدة وقد كانت شاقة ولكنها مثمرة حيث التقينا بفاعليات الجالية وزرنا المعالم السياحية الاثرية والسد العالي.
وفي القاهرة شهدت السفارة اهتماماً اجتماعياً بمنسوبيها من خلال اقامة الاحتفالات الكبرى بالأعياد الدينية و الوطنية المختلفة داخل حرم السفارة او بمنزل السفير بالمعادي أو في الأندية والمسارح العامة فازداد التواصل بين الناس في السفارة والجالية وقد شهدت الوفود والأندية السودانية المشاركة في كافة المحافل ذات الاهتمام وقد كانت فترة السفير سر الختم من أخصب الفترات في السفارة.
وقد استفدت من سيادته الكثير من المعاني ومنها القرب من المرؤسين والتوادد والتصادق معهم ، واستغربت هذا من ضابط قد يقترن اسمه بالصرامة والحدة فالاوربيون يقولون عن العسكريين (They are trained to kill )، ولكن ما يفعله هو المنهج الرباني الصحيح الذي يدعو للين مع الصحبة حتى لا ينفض الناس من حولك والحظت هذا في تعامله مع أسرته الصغيرة مثل معاملته لبنته الصغرى التي يقول لها ريم ست الحريم وذات مرة قال ريم ست الحريم والرجال وعندما تذكرنا استدرك ضاحكاً الرجال اعني بهم شخصي فقط فضحكنا جميعاً .
تعلمت منه التأني وعدم التسرع في اتخاذ القرار،او أتخاذ اي اجراء تحت الضغط، وقد صرت بعدها أطبق هذا الأمر حتى مع ابنائي إذ لا أقول لهم فوراً أني سأقوم بهذا الموضوع ولكني أقول لهم دعوني أفكر، وبعدها تكون الصورة عندي قد اكتملت كل جوانبها فاتخذ قراري متوقعاً حتى تبعاته وما ينطبق على الأسرة اطبقه كذلك في مواقع العمل بحمد الله.

وقد كان ما توقعناه منه في محله حيث كانت أعماله احداثا ذائعة الصيت، فقد أرسى تواصلاً منقطع النظير مع كل منظمات المجتمع المدني ذات الصلة برسالة البعثة سودانية كانت أو مصرية أو عربية أو دولية، وحقق العديد من النجاحات نعد منها ولا نعددها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر إعادة هيكلة السفارة وتنشيط جميع أقسامها مما جعلها نموذجاً للسفارات الأخرى، الإستمرار في ترقية تعليم ابناء الجالية السودانية وسودنة مناهج التعليم في المراكز السودانية بالقاهرة في اطار التبادل التعليمي والثقافي بيننا وجمهورية مصر العربية، مواصلة امتحانات شهادة الأساس و الشهادة السودانية بجمهورية مصر العربية وافتتاح أول مدرسة نظامية سودانية بجمهورية مصر العربية بالتعاون مع المجلس الافريقي للتعليم الخاص، وتنشيط الثقافة السودانية في كافة انحاء الجمهورية فشملت الإسماعلية ودمنهور والسويس وأسوان بالإضافة للقاهرة بمراكزها المختلفة، ثم المواظبة على حضور المنتديات والمحافل العامة المتخصصة المختلفة،الظهور المكثف في وسائل الإعلام خدمة للقضايا الوطنية، وكل ذلك كما أسلفت ليس بعزيز أو غريب عليه.
وفوق ذلك كله الإهتمام بأمر الجالية السودانية في كل أنحاء الجمهورية بزيارتها في الاتجاهات الجغرافية الأربعة مما أكبر ذلك كثيراً في نفوس أفرادها مثل حديث عمنا المرحوم محمد عابدين في بورسعيد ان اول و آخر سفير زارهم قبل سيادته هو المرحوم بابكر الديب في ستينيات القرن الماضي.ثم كانت وقفته المشرفة مع جماهير الجالية أبان ثورة 25 يناير المصرية المجيدة ومتابعته الشخصية الميدانية لمشكلات السودانيين القادمين من ليبيا عبر منافذ السلوم والاسكندرية واسوان وغيرها، بلجنة كلفني شخصياً برئاستها، كما تولى المتابعة الميدانية بالخرطوم والقاهرة تنفيذاً لبرامج اللجنة العليا المشتركة، وغير ذلك من انجازات مشرفة سجلتها صفحات التاريخ وتقارير العمل وموازين الحسنات عند مليك مقتدر.
تم نقل السيد الفريق اول سر الختم الى اثيوبيا سفيراً للسودان ومندوباً دائماً لدى الاتحاد الافريقي وقد كان ذاك آخر عهدنا به في السفارة. ولكم كنا جميعا نود أن يظل بجانبنا نلتمس منه تتبع الخطى لتحقيق الغايات والأهداف المنشودة انطلاقًا من خبرته الثرة في كل مجالات العمل العام تقريباً سياسة او ثقافة اقتصاداً أو إدارة أو رياضة، ولكن هذا ديدن الخدمة العامة، وسنن الدنيا الفانية
لقد كان لنا الفقيد اخاً معلماً ومربياً تعلمنا منه الكثير، تعلمنا منه معنى الإيثار والتضحية والفداء والعمل بجد مهما بلغ بنا العنت والمشقة، تعلمنا من سعادة الفريق العمل بروح الفريق فاختفت تماماً فوارق طبيعة الاقسام والاعمال، تعلمنا منه روح التهذيب وذكر محاسن الآخرين مهما كانت درجات الخلاف معهم، بل والتعامل برقف ورقة حتى مع الأطفال وله طرفة مع ابني محمد اسمها (كلام كلام) ، تعلمنا منه البيان العملي والمعنى الحقيقي للدبلوماسية وخدمة العباد وحب الخير للناس .
اليوم ولكل ما ذكر فإننا لا نحصي محاسنة المتعددة ولكننا نعزي انفسنا والشعب السوداني قاطبة عبر اسرته الصغيرة ممثلة في حرمه الدكتورة اميرة التيجاني وابنه الدكتور محمد الخاتم وابنتيه المهندسة رشا وريم ست الحريم واننا اذ نودعه ندعو له في عليائه بحسن القبول فجليل أعماله هو ما نشهد عليه،فنسألك اللهم ان تجعله عندك في مقعد صدق مع الصديقين والشهداء، في جنة عرضها السموات والارض اعدت للمتقين ، كما أرجو من كل من قرأ هذا المقال خالص الدعاء له بالرحمة والمغفرة، لان هذا ما يزيدة حسنات وقد لقي ربه بخير الزاد التقوى وجلائل الاعمال بإذنه تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى