تأملات_ جمال عنقرة _ التطبيع مع إسرائيل .. والتفكير السوداني العقيم

الخرطوم الحاكم نيوز
كلما أكتب أو أتحدث عن مسألة تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية والذي يبدو أنه قد قطع شوطا بعيدا، أذكر أني لن أناقش الموضوع من منطلق الحل أو التحريم، ولا من ناحية المشروعية أو عدمها، ذلك أن المسألة عندي مسألة اجتهادية يجوز فيها الرأي ويجوز فيها ضده، وعلي المستوي الشخصي أجد نفسي أقرب للاباحة من التحريم، وقد أستفيد في ذلك من حالة قياس موضوع رهن درع النبي صلى الله عليه وسلم ليهودي، وبقاؤه تحت الرهن حتى انتقال الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه راضيا مرضيا، لتبقي تلك دلالة باقية إلى يوم الدين علي جواز التعامل مع اليهود، وحتى علي مستوي الفعل العربي والإسلامي علي مستوي الدول والحكومات، والذي قد لا يرتقي إلى مستوي المشروعية الدينية لكنه حتما يمكن قياس الموقف السياسي عليه، وقد لا نجد دولة عربية ولا إسلامية حاكمة بشرع ربها، أو رافعة لراية العلمانية فاصلة الدولة عن الدين إلا ولها شكل من أشكال العلاقة مع إسرائيل، وتستوي في ذلك الدول التقدمية، والرجعية، المتحررة والمتحفظة، الجمهورية والملكية، وكذلك الاشتراكية، وأضيف في هذا المقال، وبناء علي ما ظلت تتداوله الأوساط السياسية والإعلامية في الفترة الأخيرة، ورغم اقراري بمسألة الشفافية المطلوبة بين الحكومة والشعب، لا سيما في ظل عهد الثورة، والذي يقول الناس عنه أنه (انتهي زمن الغتغيت والدسدسة) ومع ذلك لست مع الإعلان الكامل عن كل شئ، والناس يقولون (الصلاة فيها السر وفيها الجهر) ولكن المهم عندي أن تكون مصالح السودان حاضرة، ولا نظل مثل حالنا في كل العهود والحكومات، نعطي أغلي ما عندنا ونقبض السراب.
واحدة من مشكلات السودانيين الكبيرة، والمتأصلة، أنهم بذات الطريقة التي يديرون بها شؤونهم الخاصة، يديرون بها شأن الدولة العام ومثلما أن الواحد فيهم (يعطي الزاد حتى إن كان مصيره يجوع) يفرط حكامهم في حقوق الدولة من أجل دول تأخذ ولا تعطي، والناس لا يزالون يتحدثون عن العروض المصرية الضخمة لتعويضات السد العالي في العهد الديمقراطي الأول في خمسينيات القرن الماضي، ويقارنونه بما تم بعد ذلك في عهد الرئيس عبود له الرحمة والمغفرة، وتتواصل الأمثلة بعد ذلك، ومن بينها موقف السودان من الأزمة العربية الإيرانية والذي فعل فيه السودان ما لم تفعله أية دولة عربية أخري، بما في ذلك دول المواجهة في الخليج العربي، ومعلوم أن السودان قطع علاقاته بالكامل مع إيران، وقطع التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، وأغلق حتى المراكز الثقافية، والصحية، ولم يجن من ثمار ذلك شيئًا مذكورا، ومعروف كذلك موقفه في حرب اليمن، فلم يكتف بالموقف السياسي، ولا النصرة الدبلوماسية، بل قاد المواجهة العسكرية، فلا يزال الجنود السودانيون يشكلون الوقود الأساسي لحرب اليمن، ولا توجد دولة واحدة قدمت 1% مما قدمه السودان من مقاتلين علي أرض المعركة في اليمن، وأذكر أن في العام الأول لحرب اليمن التي قدم فيها السودان أرتالا من الشهداء، تم تقديم منحة للحج لأقل من مائتي من أسر الشهداء السودانيين، في حين قدم لدولة أخري لا أظن أنها قدمت شهيدا واحدا في حرب اليمن قدم لها نحو ألف وخمسمائة فرصة للحج لأسر شهدائها، وحتى عندما تم رفع هذا العدد في العام الثاني لألف فرصة، تم توزيع نصفهم بواسطة الجهة المانحة، ولم تمنح فرصة واحدة من هذه الفرص الخمسمائة إلى أسرة شهيد واحد، وهذه بالطبع ليست الأمثلة الوحيدة لعطاء السودانيين بدون مقابل، ولكنها الأمثلة الأقرب والأشهر، والتي يتداولها الناس في مجالسهم الخاصة والعامة، والتي نخشي أن تسير الحكومة الحالية علي ذات النهج السوداني القديم، وتخرج البلد من مولد التطبيع بدون حمص، وكل الدلائل تشير إلى ذلك.
ليس المقام مقام تعديد للمصالح الإسرائيلية من تطبيع علاقة بلدهم مع السودان، فالشواهد كلها تدل علي حرص منقطع النظير من الجانب الإسرائيلي للوصول بعلاقتهم مع السوداني إلى أقصي سقف متاح، والشواهد هذه معلومة للجميع، ويكفي أن دولا مهمة في المنطقة تقود هذه العملية، وبرعاية عليا من الولايات المتحدة الأمريكية، ومعلوم الحرص الإسرائيلي على الاحتفاء بكل خطوة تقارب مع السودان، وحرصه الأكثر علي تسريب كل المعلومات الخاصة بهذا التقارب، حتى التي يحرص الجانب السوداني علي اخفائها، ومنها زيارة مدير المخابرات الإسرائيلية الأخيرة إلى السودان، وقبلها كثير.
ولا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة جدا عند الحديث عن العلاقات السودانية الإسرائيلية، فالحكومة بكل أطرافها موافقة علي هذه العلاقة، ومن يقول بغير ذلك فهو كاذب، ومن يزعم غير هذا فليصدق موقفه بالانسحاب من الحكومة، ونذهب أبعد من ذلك ونقول أن دور المدنيين في هذا التطبيع أكبر من العسكريين، ومعلوم أن السند الدستوري والمشروعية الفقهية للتطبيع يأصل لها وزراء مدنيون معروفون، والحديث الآن عن الإبقاء على هذين الوزيرين ليس إلا لاستكمال هذه المهمة التي يرعاها رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك شخصيا، ولعل الناس يذكرون رد رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان علي رئيس الوزراء عندما ادعي أنه لم يكن يعلم بلقاء رئيس مجلس السيادة السوداني مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في يوغندا، وعلي المستوي الشعبي، فلا توجد معارضة تذكر للتطبيع مع إسرائيل، بل إن التيار الغالب مع ذلك شريطة أن يكون هذا في مصلحة الشعب والبلد، وعلي مستوي الأحزاب لا يوجد موقف نظري قوي رافض للتطبيع غير موقف رئيس حزب الأمة القومي الزعيم الراحل الإمام الصادق المهدي له الرحمة والمغفرة، وهو موقف أقرب إلى (ذلة ملامة) فقوته النظرية لم يتبعها أي موقف عملي، وحتى اليوم ليس للحزب موقف عملي واضح ضد التطبيع، ويكفي تأكيده علي المشاركة في حكومة التطبيع القادمة، وحتى الإسلاميين، لا سيما منسوبي حزب المؤتمر الوطني، فإن ما يقولون به من رفض مبدئي للتطبيع، هو موقف غير مبدئي، ومعلوم أن الحوار الجهير، والتواصل المباشر مع إسرائيل بدأ في عهد النظام السابق، ولا يزال الناس يتحدثون عن بعض رموز ذاك النظام، ويقولون أنهم لا يزالون يحركون دفة التطبيع مع إسرائيل، المشكلة الوحيدة الآن والتي يتوجس منها كل السودانيين خيفة، لا سيما الجمهور العام، أن تسير هذه الحكومة في منهج التطبيع مع إسرائيل، بذات النهج السوداني القديم، الذي يصفونه بالعقيم، فتعطي كل شئ، ولا تأخذ أي شئ، ولذلك الناس يتساءلون كما تساءل من قبل البطل الأمير عثمان دقنة لحظة القبض عليه، فلما رأي (ود علي) خلف جنود الاحتلال، وكان ود علي وحده الذي يعرف مكانه، قال له (لعلك ما بعتني رخيص)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى