تأملات – جمال عنقرة – هذا ما قاله الأمريكان عن مؤامرة تحطيم السودان .. وغدا بإذن الله نقول

الخرطوم الحاكم نيوز

بعثت لي الدكتورة العظيمة عفاف أحمد يحي الأمين العام لجمعية الهلال الأحمر السوداني بمقال للسيد بول كريق روبرت مساعد سكرتير وزير الخزانة الأمريكي في عهد الرئيس ريجان، عن ما أسماه مؤامرة تحطيم السودان، أنشره كما هو، ونعود للتعليق عليه غدا بإذن الله تعالي.
في أواخر العام 1992 نشر الباحثان في معهد السلام بواشنطن جون تيمن وجاكلين ولسون دراسة حذرت من سعي السودان – الدولة الإفريقية العربية الفقيرة والمنغمسة في حرب أهلية طويلة منذ استقلالها عن بريطانيا في خمسينيات القرن المنصرم- إلى الانتقال الي مصاف الدول المصدرة للبترول بانتاج قال الباحثان أنه يمكن أن يصل في نهاية المطاف الي مليون برميل يوميا. قال الباحثان القريبا الصلة بدوائر صنع القرار بالادارة والكونغرس أن السودان بنظام حكمه الإسلامي المغامر إذا امتلك القدرة الاقتصادية سيشكل تهديدا محتملا للتوازن السياسي الحافظ للمصالح الامريكية في المنطقة، وهي عبارة تعني أن هذه الدولة في طريقها لاحراز الاستقلال الاقتصادي الذي يعطيها القدرة علي الإستقلال السياسي. ومن ثم لعب دور لا يخضع للمطبخ السياسي لواشنطن. ورغم أن الورقة ركزت علي ضروروة استغلال التوجه الاسلامي الراديكالي لنظام الحكم السوداني من أجل عزله واضعافه، خاصة في محيط عربي وأفريقي متوجس من التطرف الديني، إلا أن الباحثان بينا في وضوح كاف إلى أن الإشارات السياسية التي ما انفكت ترد من ذلك البلد ذو المساحة الشاسعة كانت منذ الثمانينيات وقبل وصول الاسلاميين الراديكاليين الي الحكم (تبعث علي القلق )، مشيرين إلى فتور علاقات السودان مع الإدارات الأمريكية التي أعقبت فترة الرئيس ريجان الثانية في البيت الابيض، بما فيها أثناء فترة الحكم الديمقراطي القصيرة في السودان 1986-1989.
لكي يتسني لك أن تفهم دوافع هذا القلق من تطور اقتصادي يحدث في دولة فقيرة تبعد عنا الاف الاميال عليك أن تغوص قليلا في التاريخ وتستصحب شيئا من الجغرافيا والثقافة أيضا. هذا القطر المطلوب ترويضه يقع موقعا انتقاليا بين إفريقيا المستعربة في الشمال وافريقيا السوداء في الجنوب. هذا ما تقوله الجغرافيا. أما ما يقوله التاريخ فهو أن هذا البلد ما انفك منذ عهد بعيد يحاول تصدير (ثوراته) المتعددة والمختلفة للجوار الاقليمي، منذ عهد الفراعنة القدماء حين دكت خيوله أبواب مصر حتي تخوم رفح، والي عهد الثورة المهداوية التي سيرت الجيوش إلى مصر وأثيوبيا وحتي الحاضر القريب حين استشعر حلفاء واشنطن المقربين في مصر والخليج الخطر من المد الثورى ذو النغمة المرتفعة في الخرطوم. فهو بلد طموح كبير. أما الثقافة فتخبرك أن البلد المذكور يقع في الفاصل الديني الحاسم بين أفريقيا المسلمة الشمالية وافريقيا المسيحية والوثنية الجنوبية وهو بوابة حتمية للديانتين شمالا وجنوبا فضلا عن كونه عنصر جذب هام لقبائل غرب وشرق أفريقيا والتي اتخذته وطنا بديلا منذ عهد بعيد مما شكل ممرا مهما للاسلمة والتعريب في إفريقيا. لذا فهو بلد خطير بالحسابات الجيوسياسية البعيدة ، رغم انصراف الاعلام عنه لفقره وقلة تأثيره الآنية.
. اذا لم يكن غريبا أن تعقب تلك الورقة، والتي بيدو أنها لقيت صدى في واشنطن ، دراسات ومقالات متعددة من نافذين و ذوي صلات سياسية ذهبت الي ضرورة انتهاج سياسة أكثر صرامة من أجل حبس العفريت في قمقمه قبل أن تصعب السيطرة عليه. وقد زاد من قلق صقور الادارات الأميركية التي تتناسل باستمرار أن السودان بالفعل قد حقق معدلات نمو اقتصادى اثارت القلق، إذ بلغ معدل نمو ناتجه الإجمالي في احدى السنوات 11% متفوقا حتي علي الصين، وكان أن سارت السياسة الأميركية علي هدى الأصوات الإمبريالية المحدثة فصارت الادارات الأميركية المتعددة تتحين الفرص من أجل ايقاع الضرر الاقتصادي والسياسي بالسودان. وقد لعبت إدارة كلنتون الأولى معظم الأدوار المهمة في هذا الصدد اذ ابرمت حزمة من الإجراءات بداية من العام 1993 التي تجدد سنويا والتي تفرض علي هذا البلد أقسي أنواع التضييق الاقتصادى والذي في كثير من جوانبه يمكن أن تجده مثيرا للدهشة والاستغراب، بل انني وجدت في أثناء بحثي هذا وثيقة صادرة عن مكتب مختص بمتابعة تطبيق الاجراءات القسرية بالكونجرس تقارن الإجراءات الاقتصادية المتخذة ضد عدد من الدول، من بينها بجانب السودان كل من إيران و كوريا الشمالية وكوبا، وكان مثيرا للانتباه أن سكرتارية الخزانة الامريكية قد استفاضت في شرح اوجه الحظر الاقتصادي علي السودان في بند التعاملات المالية باكثر مما فعلت لكل الدول الأخرى بما فيها ايران نفسها. وفي عهد الإدارة الجمهورية التي خلفت كلنتون في البيت الأبيض سارت الأمور إلى اتجاه أخر، اذ باتت الإدارة الأميركية تضغط في اتجاه وقف الحرب الاهلية بين الجنوب المسيحي والشمال المسلم واجراء استفتاء شعبي من المتوقع ان تؤدى نتيجته الي انفصال جنوب السودان – الذى تقع معظم ابار البترول فيه – عن شماله، في ذات الحين الذي كانت فيه أصابعها الماكرة تذكي خلسة نار حرب أخري في اقليم دارفور الغربي ذو الغالبية غير العربية، من اثنيات بعضها مهاجر من غرب إفريقيا ووسطها. سحب الجنوب ببتروله ، وايقاد نار حرب بديلة هذه المرة داخل الكيان ذي الغالبية المسلمة الأكثر تجانسا كان هو الخطة البديلة التي خطط لها المحافظون الجدد. وكان واضحا للاشخاص العالمين ببواطن الإدارة الأميركية ، أن الهدف النهائي هو ضرب السودان اقتصاديا وايقاع ضرر هيكلي يمنعه من معاودة طموحه القديم. وقد لاحظ محمود ماماداني الأستاذ بمعهد ماكارين للدراسات الاجتماعية أن أزمة دارفور جري تسويقها اعلاميا بشكل مثير للاهتمام من جهة الموارد الضخمة والدبلوماسية المكثفة التي تم توظيفها أكثر باضعاف المرات من أزمات اشد منها اثارا في الكونغو والعراق وجنوب السودان نفسه.
وهذه المرة نجحت السياسة الأميركية في مسعاها، اذ انخفض معدل نمو الناتج الاجمالي الي أقل من 3% وتضعضع موقف العملة المحلية كثيرا مما ادى الي هروب الإستثمارات الأجنبية وصعوبة العيش المستمرة. قال لي موظف كبير في منظمة اغاثة غربية عمل في السودان أن التدابير الاقتصادية الأميركية أوقفت الأجهزة الطبية التي تصنعها شركة جي اي الأميركية، وغيرها من ذات التصنيع الأوروبى ، وأنها دمرت قطاع النقل الحديدي الرخيص ذا الفائدة الإقتصادية لصغار المنتجين ، وانها أخرجت قطاع التعليم العالي والتقني عن ملاحقة تطور التكنولوجيا وعطلت مشاريع الطاقة. قال لي : عجزت عن فهم السياسة هذه ، فالحكام والطبقة الغنية لا يتأثرون بها ، وفي نفس الحين فهي السياسة لا يبدو أنها ناجحة في ارغام السلطة علي التنحي. قلت له ببساطة شديدة يا صديقي أنت اسأت قراءة العنوان ، هذه السياسة ليست لها علاقة بنظام الحكم الحالي، هذه مجرد ذريعة ذكية ، المقصود هو تدمير الدولة نفسها وتكبيلها بشكل نهائي. ولا يحتاج الأمر أكثر من أن تكون ملما بطريقة تفكير النخبة السياسية في واشنطن . فضمن تحضيراتها للربع الأخير من العام الماضي أعدت ممثلية الولايات المتحدة في الأمم المتحدة خطة لتمرير قرار في مجلس الأمن يفرض حظر علي تصدير الذهب من السودان. و بالرجوع الي خلفية القرار نلاحظ أن الذهب صار هو السلعة الاساسية الجالبة للعملة الصعبة في السودان بعد أن انفصل الجنوب ببتروله. لم يكن الأمر مرضيا لصقور الادارة الذين كانوا يريدون هذا البلد راكعا تماما، لذا فقد هداهم تدبيرهم الي الإستعانة ببعض المنظمات والأفراد ذوي الصلات المريبة لكي يقولوا بصوت عال معهود أن الذهب يستغل في تأجيج الحرب الاهلية. ذهبت الي محرك البحث الاشهر فوجدت معظم الذهب في تلك الدولة يستخرج في شمال ووسط البلاد بعيدا عن مناطق الحرب. وان جله يستخرجه معدنون مغامرون من عامة الشعب يشابهون المغامرين الامريكيين اثناء حقبة جنون الذهب المشهورة في الغرب الامريكي , إذ أن هؤلاء المعدنين لا صلة لهم بالحكومة والتي تكتفي بشراء المعدن النفيس منهم وتصديره جلبا للعملة الصعبة. فشل مشروع القرار ، وانقذت روسيا والصين باعتراضهما عليه حياة ملايين البشر الذين تعتمد حياتهم علي هذا النشاط الاقتصادى البدائي.
كل ما مضي هو مجرد عينة من السياسة الأمريكية في افريقيا والشرق الاوسط . وهي سياسة أقل ما يقال عنها أنها لا أخلاقية. وباستثناء إشارات قليلة من طرف السيناتور فيرمونت بيرني ساندرس ذي الحظوظ القليلة في الترشح عن الحزب الديمقراطي فإن المرشحين الآخرين ذوي الحظوظ الوفيرة، وخاصة السيدة كلنتون والسيد كروز والسيد ترامب والسيد بوش النسخة الأخيرة لا يعدون الشعب الامريكي، والعالم من ورائه سوي بالمزيد من نماذج هذه السياسة الماكرة غير الإنسانية والتي تحطم حياة بشر عاديين لا ذنب لهم في سبيل أهداف خفية حمقاء لا علاقة لها بمعظم الأمريكيين.
ترجمة اقبال بادو
نشر بموقع
Information clearing house

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى