تأملات – جمال عنقرة – نادر السيوفي .. رجل من أهل الله

الخرطوم الحاكم نيوز
حاولت أكثر من مرة الكتابة عن أخي نادر السيوفي الذي رحل عن دنيا الفناء إلى عالم البقاء شهر نوفمبر الماضي، لكنني أقف في كل مرة حائرا محتارا، ليس لقلة ما أكتب عن نادر، فكل الذين يعرفونه ويعرفونني يعلمون تعدد الروابط والأواصر التي تجمع بيننا علي أصعد شتي، لكنني أقف محتارا عند المدخل، وقبله العنوان، وأشياء أخري، وتوكلت اليوم علي الحي الدائم لأكتب عن أخي الذي يظل فينا حيا لا يموت، مثله مثل الشهداء، وكل الخالدين الذين رحلوا بأجسادهم وخلفوا بصمات خالدة وراسخة، لا تغيب ولا تندثر.
معرفتي الأولي بأخي نادر بدأت قبل أكثر من أربعين عاما عندما استقبلته عند قدومه الأول للدراسة في مصر في سبعينيات القرن الماضي، حين تم قبوله في كلية الزراعة بجامعة القاهرة الأم، وكنت قد سبقته في كلية الزراعة أيضا ولكن في جامعة طنطا، وكانت في كفر الشيخ، ونادر السيوفي واحد من الذين أتوا ناضجين فكريا وسياسيا واجتماعيا، جوهرا ومظهرا، فلقد جاء كادرا إسلاميا جاهزا، وكان يحمل شنطة (سامسونايت) بنية، ويرتدي بدلة، وجزمةوشراب، وأذكر من الطلاب الإسلاميين الذين أتوا جاهزين، راشد عبد الرحيم، وأحمد الرشيد، وعلي حسن أحمد البشير، ومحمد عبد الله أحمد الهادي. ومن الشيوعيين صلاح ابو جبرة، ومن الاتحاديين المرحوم حسن البطري.
أكثر يتميز به نادر السيوفي يرحمه الله الهدوء، والرزانة، وانضباط الإيقاع والصبر علي ما لا يحتمله غيره، والمدهش فيه أنه يمتلك قدرة غير طبيعية علي الانسجام مع غيره، بمن في ذلك الذين لا يوافقونه الطباع، ولا المزاج، ولا الإيقاع، وكانت والدته يرحمها الله تعلق كثيرا علي حالة الانسجام النادرة بيني وبين نادر، رغم اختلاف إيقاع حراكنا، ولم يكن يطيب لي السكن في كسلا إلا في بيتهم العامر، رغم أن أكثر زياراتي كانت لمهام يكون من بينها سكن مريح، لكنني كنت أجد نفسي في منزل عم يوسف السيوفي جوار السينما الشرقية، وللسينما الشرقية قصة نعود إليها في مقال آخر بإذن الله تعالي.
صلتي بأخي نادر كانت عميقة جدا أيام الدراسة في مصر، وكنت أزوره كثيرا في المدينة الجامعية التي كان يسكن فيها، وكان يأتيني خصيصا للزيارة في كفر الشيخ، وكانت بيننا حوارات ومفاكرات، ومدارسات عميقة، لذلك كنت أعرف عنه ما لا يعرفه كثيرون، وكنت أراه من أميز زملائنا علي الإطلاق، لكنني لم أكن أتوقع أن الزملاء كلهم يعرفونه كما أعرفه، ولذلك دهشت جدا عندما طرح اسمه رئيسا للاتحاد العام للطلاب السودانيين في مصر، وكان ذلك في آخر عام لنا في مصر، فدهشت أولا عندما تمت إجازته في شوري الإتجاه الإسلامي بسلاسة فائقة، وكان بعض الذين سبقوه قد عانوا كثيرا في سبيل الإجازة، ولكن نادر لم يعترض عليه أحد إعتراضا يذكر، ولما طرح للطلاب تجاوزت نسبة التصويت له ولقائمة الاتجاه الإسلامي المعدلات المعروفة، وكنت شخصيا أخشي عليه من ذلك، فلم أكن أعلم أن الناس يعرفونه كما نعرفه نحن القريبون منه.
لم أجد أحدا تعرض لابتلاءات مثل التي تعرض لها نادر، وفي ذات الوقت لم أجد أحدا كان يصبر علي كل ابتلاء كما يفعل نادر، ومن بين ما تعلمت منه من أسرار الصبر علي البلاء والابتلاء، أنه كلما تصيبه مصيبة، لا ينظر إلى حجم ما أصابه من أضرار، ولكنه كان ينظر إلى الأضرار التي صرفت عنه، فيشكر الله علي ذلك، وأذكر مرة تم تعيينه في وظيفة محترمة في بنك فيصل، وكان قد جاء إلى هذه الوظيفة بعد أن حجبوا عنه وظيفة كانت أهم في شركة الاتصالات السودانية، كان الأول علي كل الذين جلسوا للامتحان، وتم إعلانه واعلامه بذلك، ولكنه أستبعد في آخر لحظة بسبب انضمامه للمؤتمر الشعبي، فعوضه الله وظيفة في البنك، وكان من أهم شروط عقد وظيفة البنك، التأمين الصحي، وبعد أقل من ثلاثة شهور من استلامه العمل في البنك ألمت به أزمة صحية، وغطي التأمين الصحي كل تكاليف علاجها في أفضل المستشفيات، فنسي نادر كل ما أصابه بسبب استبعاده من وظيفة شركة الاتصالات، وظل يحمد الله علي شروط عمل البنك التي غطت له كل تكاليف العلاج التي كانت باهظة وفوق طاقته.
ولم يكن هذا المرض الذي أشرت إليه هو ابتلاء نادر السيوفي الصحي الوحيد، ولكنه ظل يتقلب في الابتلاءات واحدا تلو الآخر، وكانت كلها قاتلة ومميتة، وكان يخرج منها جميعا كما تخرج الشعرة من العجين لا يصيبها سوء، ويخرج ليعود أقوي مما كان.
ابتلاء المرض الأخير الذي أصابه لم يكن يساوي شيئا مقارنه بما أصابه من قبل، ويكفي أن نشير إلى أن نادر أجريت له نحو خمس عمليات جراحية كبيرة، منها زراعة كلي، وقلب مفتوح، وتغيير مفاصل، وغيرها، وكلها عدت بسلام، ولما سمعنا إصابته الأخيرة بفيروس كورونا، وكان الظن عندنا أنه أضعف بكثير مما أصاب الحبيب نادر من قبل من ابتلاءات صحية، رغم علمنا بضعف تدابيرنا الصحية لمواجهة جائحة كورونا، فلم نكن نتوقع أن ساعة الرحيل قد حانت، وحانت معها ساعة مفارقة أصدق، وأوفي الأخوان والأصحاب، إلى أن نقل إلينا الناعي نبأ الرحيل الفاجع لأخينا المغوار، وأشهد، ولعل كثيرون يشهدون معي أن نادر السيوفي له الرحمة والمغفرة لم يكن إنسانا عاديا، ولم يكن مجرد انسان استثنائي كما يقول كثيرون، ولكنه رجل نحسبه من أهل الله واوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، نسأل الله له الرحمة والمغفرة، وأن يسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ولا نقول إلا ما يرضي الله. إنا لله وإنا إليه راجعون.

Exit mobile version