تأملات – جمال عنقرة – المبادرة الشعبية .. لتعزيز العلاقات السودانية المصرية

الخرطوم الحاكم نيوز
كان من المفروض أن أكتب حول هذا الموضوع قبل أيام عدة، تحديدا منذ أن ظهرت في وسائل الإعلام والصحافة أخبار إنطلاق مبادرة شعبية في السودان لتعزيز العلاقات السودانية المصرية، وظهر اسمي ضمن المؤسسين وأمينا عاما لها، وتوالت الاتصالات تنهال علي مباشرة وغير ومباشرة، بين سائل ومستفسر، ومستفهم، ومستنكر، إلا أن تلاحق الأحداث في شأن سلام جوبا، الذي فتح طريقا جديدا لإعادة رسم خارطة المرحلة الإنتقالية، استوجب علي كتابة بعض المقالات في هذا الشأن، رأيت أن لموضوعها أولوية، وطلب حاد. واعود اليوم لموضوع المبادرة، وقصتها، وبعض ما كان يسأل عنه السائلون والمستنكرون، ومن بينهم.
أقول إبتداء أني عندما بدأت صلتي المباشرة بمصر قبل نحو خمسة وأربعين عاما عندما ذهبت إليها أول مرة طالبا للدراسة في جامعاتها، لم يخطر ببالي أن العلاقة بين البلدين والشعبين الشقيقين تحتاج إلى أي دعم أو تعزيز رسمي أو شعبي، فعلي المستوي الرسمي كانت العلاقة بين الحكومتين السودانية برئاسة الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري، والمصرية برئاسة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، كانت علي أحسن ما يكون، فكان التكامل في أعظم حالاته، وكان السودانيون في مصر يعاملون معاملة المصريين تماما في كل شيء، في العلاج والسياحة، والتجارة والدراسة، فبينما كان الطلاب الوافدون من كل الدول العربية والأفريقية وغيرها يدفعون أربعة آلاف من الجنيهات الاسترلينية رسوما دراسية كل عام، كنا ندفع نحن السودانيون عشرة جنيهات مصرية فقط مثلنا مثل المصريين، وكانت التحويلات المالية تنساب طبيعية بين البلدين عبر البنوك والبريد بما يعرف بالدولار الحسابي، وكان الناس يسافرون بين السودان ومصر ببطاقة وادي النيل، وكان أهالي وادي حلفا وأسوان يتنقلون بين البلدين بالبطاقة الشخصية، وكانت أعداد السودانيين في العتبة وأمبابة والبراجيل، ودراو وكوم أمبو، وعين شمس، والجبل الأصفر، أكثر من أعداد المصريين، فلم تكن العلاقات بين البلدين تحتاج إلى دفع أو تعزيز شعبي أو غيره.
بعد انتفاضة رجب أبريل عام 1985م، في السودان بدأت الأوضاع تتغير، ففي عام الانتقال قاد التجمع المعارض حملة تطلب من مصر تسليم الرئيس نميري، وخرجت مظاهرات في الخرطوم تنادي بذلك، وحاصر بعضها السفارة المصرية، وحرق المتظاهرون علم مصر وداسوا عليه باقدامهم، ولما جاءت حكومة السيد الصادق المهدي زاد الأمر تعقيدا، فتم إلغاء التكامل، وألغيت اتفاقية الدفاع المشترك، وصارت الحكومتان – السودانية والمصرية – تكيد كل منهما للأخري، والشواهد علي ذلك كثيرة، أشهرها قصة الكاسيت الذي تم تسجيله بين السفير المصري السيد الشربيني، وبين وزير الداخلية السوداني الأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي السيد سيد أحمد الحسين. ولما جاء نظام الإنقاذ ازداد الحال سوءا، لا سيما بعد أن اكتشف المصريون علاقة النظام الجديد بالجبهة الإسلامية، وكانوا يظنونه موال لهم، وانتقلت المعركة من الخفاء إلى العلن، استضافت الحكومة السودانية الإسلاميين المصريين المقاتلين لحكومة بلدهم، واستضافت مصر التجمع المعارض لحكومة السودان، وتجاوزت المعركة بين القاهرة والخرطوم كل الحدود، والأعراف والقيم، ولما حدثت محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وطال الاتهام حكومة السودان، ازدادت المعركة اشتعالا، فتعرض الدبلوماسيون للضرب في عاصمتي البلدين، وطالت المعركة الشعب، وظهر ما عرف بحرب المطارات، وتمددت مصر في منطقة حلايب، وفرضت تأشيرة دخول للقادمين من مصر للسودان، ومن السودان إلى مصر، وكانت الحكومة السودانية قد أغلقت جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وأغلقت معها مدارس البعثة المصرية، وصادرت مبانيها وممتلكاتها، وأوقفت ابتعاث الطلاب السودانيين للدراسة في مصر، وصارت مصر تضيق علي السودانيين المقيمين في ارضها، فتمددت المعارك بين البلدين، وطالت المواطنين هنا وهناك، وكان أكثر المتضررين من ذلك السودانيون الذين لديهم صلات واتصالات ومصالح في مصر، والمصريون الذين لديهم صلات واتصالات ومصالح في السودان.
هذه المتغيرات استوجبت حراكا في البلدين، علي الأقل للمحافظة علي ما تبقي من جسور، وأذكر أن السفير المصري المرحوم الدكتور حسن جاد الحق، كان يفخر بعد انتهاء فترة عمله في السودان أنه حافظ علي باب العلاقات بين البلدين (موارب).
وليس لما بيني وبين مصر والمصريين من اتصالات وعلاقات وتواصل فقط، ولكن أيضا لأني أزعم معرفة مصر كما لا يعرفها سودانيون آخرون قد يدعون غير ذلك، فما أتيح لي لتعميق وتأصيل هذه المعرفة، لا أعتقد أنه قد أتيح لكثيرين غيري، هذا إن كان يوجد من تحققت له هذه المعرفة، ولذلك كنت أنشط في مد جسور التواصل بين الخرطوم والقاهرة علي صعد شتي، وكنت أفعل ذلك منفردا، ومع آخرين ممن يشاركونني هذه الهموم من السودانيين والمصريين علي حد سواء، وقبل نحو خمس سنوات تقريبا نشطت ضمن مجموعة تهتم بهذا الشأن، من بين رموزها في السودان، أستاذنا الجليل البروفيسور علي محمد شمو، والشيخ أحمد عبد الرحمن محمد، والأنبا صرابامون، والسفير الرفيع الدكتور علي يوسف أحمد، وشيخ العرب المهندس يوسف أحمد يوسف، والأب البروفيسور القمص فيلوثاوس فرج، ومن الزملاء الصحفيين أخي الأستاذ مصطفي ابو العزائم، والشريف الهندي عز الدين، وآخرون كثر، وكان ذلك برعاية مجلس الصداقة الشعبية العالمية، وتبادلنا زيارات بين الخرطوم والقاهرة، وكانت لنا طموحات عالية لاستعادة مسار العلاقات بين الشعبين والبلدين الشقيقين إلى أحسن مما كانت عليه في أحسن الأحوال، لمصلحة شعبينا وبلدينا العزيزين.
ولما تاه مجلس الصداقة الشعبية مع التائهين، وتوقفت الجهود التي كان يرعاها، وظهرت تحديات جديدة في العلاقات السودانية المصرية تستوجب تداركا عاجلا، وهي معلومة للجميع، صار أخي السفير الحبيب الدكتور علي يوسف يلاحقني مذكرا بما يستوجب علينا فعله قبل فوات الأوان من أجل وادي النيل، وشعب وادي النيل، فتواصلنا مع بعض أصدقائنا الذين تجمعهم معنا هموم وادي النيل، وتنادينا، وكانت هذه هي قصة ميلاد المبادرة الشعبية لتعزيز العلاقات السودانية المصرية، وفتحنا بابها لكل من يرغب في المساهمة الإيجابية في دفع علاقات البلدين والشعبين الشقيقين، ونتواصل في ذلك مع المسؤولين في البلدين، ومع مؤسسات المجتمع المدني، ومع كل الفاعلين الذين يمكن أن يسهموا في تحريك هذا الملف المهم بإذن الله تعالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى