تأملات _ جمال عنقرة _ العقوبات .. ليست أصعب العقبات

يقولون أن والد المولود هو الذي يختار له اسمه، والحكومة السودانية قالت إنها طبعت العلاقات مع إسرائيل من أجل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبهذا المعيار فقط ينبغي أن تتم محاكمة قرار التطبيع، أو علي الأقل هذا هو المنطق الذي أنظر به إلى مسألة التطبيع، ويبدو أن كثيرين من أهل السودان ينظرون إليه من ذات الزاوية، لا سيما الذين يعتبرون كل الآراء في شأن العلاقة مع إسرائيل – الرافضة والمؤيدة علي حد سواء – كلها آراء اجتهادية، رغم قناعة صاحب كل رأي برأيه واعتداده به، وبهذا المنطق يصبح تطبيع العلاقات مع إسرائيل وسيلة وليس غاية، وهو وسيلة لوسيلة أخري هي رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهذا الرفع يتيح للسودان أن يندمج مع العالم الخارجي، ويستفيد من ميزات هذا الاندماج الإيجابي.
وفي تقديري أن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ليس وحده كافيا لتغيير حياة السودانيين إلى الأفضل، وبين أيدينا تجربة كانت نتيجتها علي عكس ما كان يرتجي منها، فلما أصدر الرئيس الأمريكي السابق باراك اوباما قرارا برفع العقوبات الاقتصادية عن السودان، حدث أسوأ تدهور وانحدار للجنيه السوداني، لم يحدث مثله قبل ذلك أو بعده، إلا ما نشهده اليوم، وهذه حالة لا يصح القياس عليها، فهي حالة شاذة، والشاذ لا يبني عليه حكم، وذاك التدهور في قيمة الجنيه السوداني لم يكن بسبب رفع العقوبات الاقتصادية، ولكنه حدث بسبب السياسات الاقتصادية التى انتهجتها حكومة ذاك الزمان التي توهمت انه بمجرد رفع العقوبات الاقتصادية، سوف تنهال الواردات والاستثمارات علي البلاد، فاتخذ وزير مالية ذاك العهد الفريق الدكتور الركابي أغرب قرارات في التاريخ، فرفع سعر الدولار الجمركي من ستة جنيهات إلى ثمانية عشر جنيها، وحرر سعره، ليحدده السوق، وكون آلية لذلك، فكانت النتيجة أن توقفت الواردات بنسبة تصل إلى 90% فانخفضت قيمة الجمارك التي كان يظن أنها سوف تتضاعف، أما سعر الدولار في السوق الموازي، فصار مثل (عايرة وأدوها سوط) إلى أن جاءت وزارة البدوي ومن بعده هالة، فأعطتها (مليون سوط)
ومن أول إفرازات التطبيع السالبة والتي لا بد أن يكون أثرها علي حكومة المرحلة الإنتقالية، وعلي الفترة الإنتقالية كلها، أنه زاد مكونات الحكومة تباعدا علي تباعد، فباعد بين العسكريين والمدنيين أكثر مما هم متباعدين، وأدخل رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك في فتيل ضيق، فبدأ الرجل متناقضا ومهزوزا، واتضح أنه يمتلك أكثر من لسان، لسان للقحتيين الذي أتوا به، ولسان للعسكريين الذين اووه، ولسان آخر للإعلام لا يرضى هؤلاء ولا هؤلاء، أما أحزاب قحت اليسارية والقومية فصار عليها ما صار علي أم العروس حينما غضبت (رفضت اللحم وأخذت القروش) فهؤلاء رفضوا التطبيع ودعوا إلى مناهضته، ومع ذلك أعلنوا استمرارهم في الحكومة، وليس حال حزب الأمة القومي بأحسن من حالهم، ويبدو أن السيد الصادق المهدي استفاد من درس ولاة حزبه الستة الذين دعاهم قبل ذلك للانسحاب من الحكومة، ولم ينسحب منهم أحد، فأعلن السيد الصادق رفضه للتطبيع، وقال إنه سوف يعمل علي إسقاط الحكومة، ولم يوضح موقفه من المشاركة صراحة، سواء كانت المشاركة السابقة أو القادمة في حكومة ما بعد اتفاق السلام. هذه مشاكل من الواضح أنها أقسي علي الحكومة من العقوبات نفسها، وما لم يمتلك الذين يمسكون بدفة مركب المرحلة الإنتقالية مواهب وفنون، وجسارة القيادة، فإن كل شيء سيكون في مهب الريح، والحافظ الله.
أمر آخر مهم، وخطير وهو الفهم الخاطئ للتطبيع عند مسؤولين رفيعين في الدولة، وفي أعلي مراتبها القيادية، ويبدو أنهم ليس لديهم معرفة بعلاقات الدول التي سبقت في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، فالتطبيع ظل محصورا في دوائر ضيقة جدا، وفي مصالح مشتركة أكثرها غير مباشر، ولذلك أعجب لمسؤولين يتحدثون عن تعاون مع إسرائيل في مجالات الزراعة والتقانة وغيرها، وبعضهم يتحدثون حتى عن التطبيع الشعبي والسياحي وغيره، ولعل هؤلاء لا يعلمون أن مصر رائدة التطبيع عدد فنادقها التي تستقبل يهود لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل إن كثير من مطاعم مصر ومقاهيها، ومتاجرها لا تتعامل مع الإسرائيليين، ويبدو أن هؤلاء والذين يشايعونهم من الذين يدعون إلى تنظيم رحلات سياحية متبادلة مع إسرائيل، يبدو أنهم لم يشاهدوا فيلم (السفارة في العمارة) ومن المؤكد أنهم لم يسمعوا بقصة المطعم السياحي في منطقة جرش بالعاصمة الأردنية عمان، الذي طرد صاحبه السفير الإسرائيلي ولم يسمح له بالغداء في مطعمه، فصار المطعم بعد ذلك مزارا لكل زائر إلى عمان، وكانت أول وجبة لنا في عمان عندما ذهبنا للعزاء في الملك حسين يرحمه الله عام 1998م، في هذا المطعم، فيبدو أن الحكومة في حاجة إلى دروس مكثفة عن كيفية التعامل مع ثوابت ومتغيرات السياسة الخارجية، وكيفية الاستفادة من رفع العقوبات، ووضع العلاقة مع إسرائيل في حدودها الطبيعية، ويمكن الاستفادة في ذلك من تجارب مصر، وقطر وتركيا، وغيرها من الدول التي لها علاقات طبيعية مع إسرائيل، دون أن تخصم هذه العلاقة من ثوابتها ومرتكزاتها، ودون أن يختل بها سلم اولوياتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى