تأملات – جمال عنقرة – الإسلاميون .. والديمقراطية الرابعة

الخرطوم _ الحاكم نيوز
كثير مما يمكن أن أذكره في هذا المقال ورد في مقالات أخري متفرقة، لا سيما تلك التي ناقشت فيها أزمة ثورة ديسمبر المجيدة بين مطرقة من أسميتهم الواهمين، وسندان من وصفتهم بالشاطحين، وكنت أعني بالواهمين بعض منسوبي المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية الذين لم يستوعبوا بعد سقوط نظامهم وحكومتهم، وعنيت بالشاطحين بعض منسوبي قوي إعلان الحرية والتغيير الذين ظنوا أنهم بما دان لهم من سلطان بقبول أكثر أهل السودان لهم حاضنة سياسية للثورة والحكومة يمكن أن يمسحوا بجرة قلم، ليس الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني ومنسوبيهم وحدهم، من الوجود، لكنهم وصلوا درجة من الشطح توهموا معها أنهم يمكن أن ينسفوا كل ما له علاقة بالإسلام في السياسات والتشريعات، والأخلاق كذلك، وفي هذا المقال أجمع كثيرا مما نثرته من قبل في مقالات عدة، في محاولة لرسم صورة واقعية لما كان عليه الإسلاميون خلال المرحلة الماضية، وما يجب أن يكونوا عليه الآن ومستقبلا بإذن الله تعالي، وتلك صور تغيب علي بعض الإسلاميين، وتغيب علي كثيرين من خصومهم أيضا.
ونعود أولا لموقف الإسلاميين من انقلاب الإنقاذ في الثلاثين من يونيو عام 1989م، ومما لا خلاف حوله أن قرار الإستعانة بعسكريين للاستيلاء علي السلطة اتخذه مجلس شوري الجبهة الإسلامية القومية، وهذا ما ذكره قادة إسلاميون كثر بعد المفاصلة المشهورة التى حدثت بعد قرارات الرابع من رمضان المشهورة، ولكن محل الخلاف هل كانت حركة الإنقاذ انقلابا أم تصحيحا للإنقلاب الذي حدث في العشرين من فبراير عام 1989م، يوم أن أجبر الجيش عبر مذكرته المشهورة التي دفع بها في ذاك اليوم السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء علي إخراج الجبهة الإسلامية من الحكومة وإشراك الحزب الاتحادي الديمقراطي والحزب الشيوعي السوداني بدلا عنها، ولقد اتفق كثير من المنصفين علي أن ما جري للجبهة الإسلامية يشبه إلى درجة كبيرة ما حدث للحزب الشيوعي يوم أن طرد نوابه من البرلمان بجريرة طالب معهد المعلمين العالي شوقي، الذي تحدث في ندوة طعن فيها في بيت النبوة الكريم، ومثلما عاد الشيوعيون المطرودون من البرلمان مع دبابات العسكر في الخامس والعشرين من مايو عام 1969م، عاد الإسلاميون المبعدون من الحكومة في صحبة دبابات الجيش في الثلاثين من يونيو عام 1989م.
والثابت أن الإسلاميين لم يكونوا جميعا مع هذا المنطق، رغم معقوليته، وأن القيادة الفكرية والتاريخية للحركة كانت تري الحراك للتصحيح وليس للحكم، وكان المعني منه تقويم مسار الديمقراطية، وكان هذا هو سبب ابتعاد أساسيين في مقدمتهم العميد الركن عثمان أحمد حسن، الذي كان من المفروض أن يكون هو الرئيس بعد استشهاد العميد طيار مختار محمدين، ولهذا السبب كان أول المستقيلين من مجلس قيادة الثورة، وأول المبتعدين نهائيا، والخلاف والاختلاف حول أن تحكم الحركة الإسلامية بالانقاذ أو ترد الحكم إلى أهله كان هو السبب في المفاصلة التي أشرت إليها ويعلمها الجميع.
ومعلوم أيضا أن إسلاميين كثر كانت لهم مواقف تصل إلى درجة المناهضة لحكومة ونظام الإنقاذ، وكان الشهيد داود بولاد أول من حمل السلاح في وجه الحكومة، وكان من أوائل الذين استشهدوا في عهد الإنقاذ وهو قيادي إسلامي معروف، له سبقه وكسبه، وفضله، ولما حدثت المفاصلة عام 1999م، كان الإسلاميون الذين توالوا مع الشيخ الترابي في المؤتمر الشعبي هم الأشرس والأجسر في مناهضة حكومة الإنقاذ، ولاقوا في ذلك ما لاقوا، ومنهم من استشهد في هذا السبيل مثل الشهيد علي البشير، ثم قاد بعضهم لا سيما من اسلاميي دارفور معارضة مسلحة تمثلت في حركة العدل والمساواة، وكان من مؤسسيها وقادتها الإسلاميين قائد الحركة الشهيد دكتور خليل إبراهيم، وشقيقه الذي خلفه في رئاسة الحركة الدكتور جبريل، وسليمان جاموس، والمهندس أبوبكر حامد نور، والشهيد جمالي حسن جلال الدين، وأحمد ادم بخيت، وآخرين كثر ظلوا الأشرس في منازلة نظام الإنقاذ حتى لحظة سقوطه في الحادي عشر من شهر أبريل عام 2019م، وهناك إسلاميون معروفون لهم كسبهم وتاريخهم خرجوا من الانقاذ وناهضوها مثل الدكتور غازي صلاح الدين الذي كون حركة الإصلاح مع بعض أخوانه من الإسلاميين نذكر منهم علي سبيل المثال الأستاذ حسن عثمان رزق، والدكتور أسامة علي توفيق، وهناك إسلاميون كثر ناهضوا الإنقاذ بأفكارهم وآرائهم وأقلامهم مثل المرحوم البروفيسور الطيب زين العابدين، والبروفيسور حسن مكي محمد أحمد، والبروفيسور محمد محجوب هارون، والشهيد محمد طه محمد أحمد، والدكتور خالد التجاني النور، ومعلوم أن الشهيد الأستاذ أحمد خير الذي زاد استشهاده من إشعال فتيل الثورة هو أيضا من الإسلاميين، هذه أمثلة رغم كثرتها، وتعددها، وتواصلها هي فقط بعض نماذج توضح كسب الإسلاميين في مناهضة الإنقاذ، وهو كسب لا نريد أن نبرئ به ساحتهم، ولكنه يضعف حجة الذين يزايدون عليهم، وهي مرافعة لا نهدف من ورائها إيجاد مشروعية للحركة الإسلامية في عهد الديمقراطية الرابعة، فإن الحركة الإسلامية بتجمدها، وتكلسها، وبضعف المبادرة فيها، كانت واحدة من أسباب سقوط الإنقاذ في وقت سقوطها، وبتلك الطريقة التي سقطت بها، ولذلك فإنها لن تصلح اليوم لا بفكرها، ولا بسياساتها، ولا برجالها الذين كانوا سببا في سقوطها، وفي تقديري أن مشروع المنظومة الخالفة الذي كان يقوده الراحل المقيم الدكتور حسن الترابي، هو المخرج، ليس للإسلاميين وحدهم، ولكنه المخرج لكل الوطنيين من أهل السودان، ولئن أضاع الإسلاميون هذه الفرصة في عهد حكم الإنقاذ لا سيما الذين كان بيدهم الحكم بقيادة المشير البشير فعلي كل القوي الوطنية ألا تضيع هذه الفرصة التي تجددت، وتمددت، وتوسعت فرص نجاحها في الديمقراطية الرابعة، وهي بالطبع لن تكون لا باسمها ولا بشكلها، ولا قيادتها القديمة، وكنت أري السيد الإمام الصادق المهدي الأنسب لقيادة مشروع وطنى قومي مثل هذا، ولا زالت الفرصة أمامه متاحة لو أنه تجاوز خلافاته الصغيرة وأدرك حقيقة أنه الآن صار كبير أهل السودان كلهم – كبيرهم في كل شئ – وأقولها صراحة للإمام الذي يعلم أني أكن له تقديرا عظيما، وبيننا تاريخ مشترك قديم وحديث، أقول له أن أفكاره ومشروعاته القومية الوطنية الكبيرة تهزمها مواقف وأقوال صغيرة، مثل التي يقول بها في حق الذين اختلفوا معه في مراحل سابقة من أهل بيته، ومن أركان حزبه، وهذا محك لامتحان علو النفس وسموئها، ومهما يعدد السيد المهدي من القيادات الذين معه في الحزب، فإن الذين فقدهم لا بديل لهم، ثم أن فاقد الشئ لا يعطيه، فإذا عجز الإمام عن جمع شتات أهل بيته، وقيادات حزبه، فلن يطمع أحد في أن يكون له دور في جمع شمل أهل السودان، ولا حتى جمع الحاضنة السياسية للثورة قوي إعلان الحرية والتغيير، التي موقفه منها أقرب إلى (لا بريدك ولا ببقي براك)
وفي شأن الإسلاميين أيضا فإن معارضيهم يتهمون نظامهم وقياداتهم بالفساد، وهذا أمر ليس الصحافة والإعلام مكان إثباته أو الدفاع عنه، فهذا أمر تحسمه الجهات القانونية والعدلية، ولقد عجبت لخبر يتداول بأن تلفزيون الحكومة يحشد لإنتاج برامج لفساد الإنقاذ، فالاعلام ليس مكانا لإثبات الفساد ولا محاكمته، ولماذا تلجأ الحكومة لمثل هذا التصرف، وبيدها كل الجهات العدلية كلها ومتاحة لها، وكل مستندات وأوراق العهد السابق في يدها، وكل قادته تحت قبضتها، وفي حراساتها، وفي مقدورها تقديمهم لمحاكمات، وتقضي علي كل من تثبت عليه تهم الفساد، وعموما فإن الفساد لا يدافع عنه أحد، وكل من تثبت عليه تهمة يجب أن يجد الجزاء الذي يستحقه، ولكن الفساد لن يظل سيفا مسلطا بغير دليل، وميزة تقديم المتهومين والمشتبه فيهم إلى محاكمات عادلة، يقطع الطريق أمام كل المزايدات، سواء من قبل المتهومين، أو الذين يوجهون إليهم الإتهامات، وتفتح الطريق لبناء نظام سياسي قويم، يبعد عنه كل الفاسدين سواء كانوا إسلاميين أو غير إسلاميين، وهكذا يمكن أن يستقيم مسار الديمقراطية الرابعة، وتتجدد فرصة تاريخية لمعالجة كل سوءات الديمقراطيات الثلاث السابقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى