تأملات – جمال عنقرة – المخابز المصرية .. وحلاوة طحنية

الخرطوم: الحاكم نيوز
يحكي أن رجلا كان له ساع يعمل معه في مكتبه لم يكن يحسن التصرف البتة، وفي مرة من المرات أرسل هذا الرجل الساعي ليحضر له فول وعيش للفطور، فلم يجد الفول فأحضر العيش فقط، فقال صاحب العمل للساعي لماذا لم تتصرف عندما لم تجد الفول، فسأله الساعي كيف يتصرف، فقال له كان يمكن أن تحضر طحنية مثلا، وفي مرة تالية أرسله ليشتري له صحيفتي الأيام والصحافة، فلم يجد صحيفة الأيام، فأحضر صحيفة الصحافة واشتري معها طحنية.
تذكرت هذه القصة عندما قرأت أن الحكومة السودانية تحتفي بمخابز مصرية أرسلتها حكومة مصر الشقيقة لحل مشكلة الخبز في السودان، ويبدو أن المسؤولين عندنا تصرفوا بذات طريقة ذاك الساعي، هذا رغم قناعتي أن هذا النوع من المخابز المصرية يمكن أن يسهم بشكل فعال في حل مشكلة الخبز في السودان، ولكن ليس في مثل هذه الحالة التي يعتبر الدقيق هو أساس مشكلتها، وأذكر علي أيام الرئيس المصري الراحل محمد حسني مبارك حدثت أزمة كبيرة جدا في الخبز في مصر، وكانت تقارب أزمتنا الحالية إن لم تصلها، فاستدعي الرئيس مبارك المشير طنطاوي وزير الدفاع وطلب منه حل مشكلة الخبز خلال ستين يوما، فجمع المشير بعض الخبراء في المؤسسة العسكرية لتحديد أسباب الأزمة، فأجملوها في شح الدقيق، وضعف الطاقة الإنتاجية للمخابز، وسوء التوزيع إذ أن كثير من الخبز المدعوم يتسرب ويذهب إلى أصحاب المزارع الذين يستخدمونه في العلائق المركزة للماشية، وبناء علي ذلك تم وضع خطة الحل، وتمثلت في استيراد المؤسسة العسكرية للقمح والدقيق، وتركيب عدد من المخابز عالية الإنتاج التي يتم تصنيعها في المصانع الحربية، وتوزيعها على مختلف أنحاء الجمهورية، وإشراف عسكريين علي إنتاج الخبز وتوزيعه، فتم حل المشكلة في أقل من شهر، ومنذ ذلك الحين لم تحدث مشكلة خبز ثانية في مصر.
ولو كان المسؤولون عندنا يحسنون التصرف، لبحثوا عن الطريقة التي حلت بها مصر مشكلة الخبز، وهي كانت قريبة من مشكلتنا، ولاتخذوا ذات النهج، أو نهجا قريبا منه يمكن أن يحل مشكلة الخبز في السودان بشكل نهائي، وأعتقد أن الفرصة لا تزال قائمة، وأن النموذج المصري يظل هو الأقرب والأمثل لحل مشكلة الخبز في السودان.
أول شئ يجب فعله، أن يسند الحل إلى المؤسسة العسكرية السودانية كما فعلت مصر، وهذا لا يفعله إلا السيد رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة سعادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، فالاخرون لا يزالون يعيشون علي أكذوبة أن الجيش يستولي علي ثروات البلاد، فعلي الرئيس البرهان أن يفعل كما فعل الرئيس مبارك له الرحمة والمغفرة، ويستدعي رئيس هيئة الأركان الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين، ويستدعي معه المدير العام لمنظومة الصناعات الدفاعية الفريق أول ركن ميرغني إدريس ويعهد إليهما حل مشكلة الخبز في السودان، فيتولي الجيش عبر المنظومة استيراد القمح، ويشرف علي طحنه، وتوزيعه، وتصنيعه، ثم توزيعه علي المواطنين، وهنا نكون قد استفدنا من مغزي التجربة المصرية في حل مشكلة الخبز.
وهناك فوائد أخري مباشرة يمكن أن نستفيدها أيضا من الشقيقة مصر في حل مشكلة الخبز، حاليا وعلي المدي البعيد، وبرؤية شاملة واستراتيجية كذلك، وهي أيضا تكون مع الجيش المصري الذي تبرع بهذه المخابز للسودان، وهي من إنتاج التصنيع الحربي المصري، فعلي المدي القريب يمكن الإستفادة من القنوات المصرية في استيراد القمح والدقيق، ونخرج بذلك من قبضة مافيا الدقيق التي دمرت الاقتصاد السوداني، ونستورد من مصر كمية كبيرة من هذه المخابز، وننشر تجربتها في كل ربوع السودان، وهذه المخابز لها ميزات كثيرة، فهي لا تأخذ حيزا كبيرا من المكان، وانتاجها عال جدا، ثم أنها تستخدم قمح مخلوط، وهو صحي ومفيد للجسم، أما علي المستوي الاستراتيجي فيمكن الإستفادة من التجربة المصرية في زراعة القمح وغيره، وفي هذه أيضا يتصاعد دور المؤسسات العسكرية هنا وهناك، ففي مصر توجد المؤسسة العسكرية للإنتاج الزراعي، وهي متخصصة في الزراعة الحديثة، ولقد أشرت في مقالات سابقة إلى تجربتها في استصلاح وزراعة مائتي ألف فدان خصص كل إنتاجها للصادر، وفي السودان توجد شركة زادنا فخر الزراعة السودانية وهي تابعة للمؤسسة العسكرية السودانية، فيمكن عمل مشروعات زراعية مشتركة بين المؤسستين الزراعيتين العسكريتين السودانية والمصرية، لصالح البلدين والشعبين الشقيقين، وبالطبع ستكون الزراعة في السودان للميزات التفضيلية له في ذلك، وتكون الخبرات ورأس المال من مصر والسودان، وهذه يمكن أن تكون عودة قوية للتكامل المنشود بين البلدين ولو علي المستوي الإقتصادي فقط، وتكون كذلك بداية لتحقيق شعار السودان سلة غذاء العالم، بعد أن يكفي مواطنيه، وأشقاءه في شمال الوادي، وأخوانه وجيرانه في الوطن العربي كله، وقارة أفريقيا السمراء، ومن المحاصيل الزراعية التي للسودان فيها ميزات تفضيلية في المكان، ولمصر خبرات تراكمية في زراعتها، ويمكن أن تحل مشكلات كبيرة في مصر والسودان، الأرز، فمصر أوشكت أن توقف زراعة الأرز لمشكلتين كبيرتين، استهلاك الماء، وحريق العيدان الذي يشكل تلوثا خطيرا للبيئة لدرجة أن صدرت فتاوي بحرمة حريق سيقان الأرز، وكانت هناك تجربة ناجحة جدا لزراعة الأرز المصري في منطقة الدويم بالنيل الأبيض، ويمكن احياء هذه التجربة وتوسعة نطاقها، فتحل مشكلة الأرز في مصر والسودان، وهو محصول قابل للتصدير، هذا فضلا عن أن إنتاجه يوفر مبالغ ضخمة من العملات الأجنبية كانت تذهب لاستيراد الأرز من دول عدة، بعد أن أوقفت مصر تصديره.
وتلك نماذج محدودة جدا للإستفادة من علاقتنا بمصر الشقيقة، لحل مشكلة الخبز، ومشكلات أخري نعاني نحن من بعضها، ويعانون هم من أخري، ويمكن أن يحدث ذلك لو وسع المسؤولون من آفاق التفكير، وتصرفوا بوعي وإدراك، وأدركوا أن الطحنية يمكن أن تكون بديل فقط للفول، ولكنها لا يمكن أن تكون بديلا لصحيفة الأيام كما فعل ذاك الساعي المحدود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى