
قولان مهمان، وردا علي لساني أهم شخصيتين اقتصاديتين في البلاد بشأن سياسات الدولة تجاه الدولار، وتجاه العملات الأجنبية بشكل عام، يستحقان الوقوف والتأمل، أحدهما للدكتورة هبة وزيرة المالية المكلفة، فقالت الدكتورة هبة أن الإجراءات الأمنية وحدها لا تكفي لكبح جماح الدولار، ومعلوم أن الدولار الأمريكي ومعه كل العملات الأجنبية الأخري ظلت تشهد تصاعدا جنونيا غير مستوعب في مقابل الجنيه السوداني الذي خسر كل المعارك، حتى لم تعد له قيمة تذكر، أما القول الآخر فهو لمحافظ بنك السودان السيد محمد الفاتح زين العابدين الذي قدم تصنيفا للصادرات السودانية، ووضع التي تأتي في خانة الصادرات الأهم مثل الذهب، والقطن والثروة الحيوانية وضعها لمقابلة السلع الاستراتيجية مثل القمح والدقيق والدواء، وهذان القولان هما ما نحن بصدد الوقوف عندهما في مقال اليوم.
نتفق أولا مع السيدة وزيرة المالية في أن الإجراءات الأمنية وحدها غير كافية لمحاربة ارتفاع أسعار الدولار، ولكن نستغرب أن الحكومة لا تزال تعلي من شأن الإجراءات الأمنية القمعية، وبصورة يمكن أن نقول عنها أنها غير مدروسة، وهي – كما أشرت في مقال سابق – تطعن في الظل، فأول وأقوي حملة دهم لما تظنه الحكومة أخطر أوكار بيع الدولار والذهب، وهي عمارة الذهب في الخرطوم، ألقت الحكومة بكل ثقلها في هذه الحملة التى قادها مدير الشرطة شخصيا، وفي وتقدير كثيرين من العالمين بشؤون الاقتصاد، والعارفين بخبايا أسواق العملات الأجنبية يرون أن هذه الحملة كانت أشبه بمن أراد أن يقتل ذبابة بساطور، وهم يعتقدون أن حجم الأموال الموجودة في عمارة الذهب، والتي يمتلكها كل تجار العمارة، ويتداولونها لا تتجاوز 5% من حجم تجارة العملة في السودان خارج النظام المصرفي، لذلك قطعوا بفشل الحملة مهما بلغت قوتها، وقالوا إن أي انخفاض يحدث في سعر الدولار والذهب سرعان ما يعود سريعا، وقد كان، فأباطرة تجارة العملة، والذين يمتلكون المليارات من الدولارات، كلهم خارج البلاد.
إن الحملات الأمنية لمحاصرة التداول غير القانوني للعملات الأجنبية والذهب لن تنجح ما لم تتبعها سياسات كلية وتفصيلية تقلل الطلب علي الدولار وترشده، وتزيد من عائدات الصادر بالعملات الأجنبية، ولقد تحدثت في المقال السابق عن سياسات استيراد القمح والدقيق، والتي استفادت منها مافيا الدقيق التى دمرت الاقتصاد السوداني، وأشرت دون تفصيل إلى مافيا الدواء، ومثلما كتبت عشرات المقالات منذ العهد السابق عن مافيا الدقيق، كتبت أيضا عن مافيا الدواء، وكانت أيام النظام السابق الأخيرة قد شهدت حربا علي مافيا الدواء، ولقد تم الكشف عن عدد من شركات الأدوية المسجلة، والتي يخصص لها بنك السودان مبالغ كبيرة بالعملات الأجنبية لاستيراد الأدوية، وهي لا تستورد أدوية، ولا تعمل فيها أصلا، وتوجد شركات أدوية أخري تستورد أدوية، ولكنها لا تستورد الأدوية المخصص لها المبالغ، بل إن كثير من المبالغ المخصصة للأدوية يتم بها استيراد مستحضرات تجميل وعطور، وحتى الأدوية التي يتم استيرادها فلا يتم تسعيرها بالقيمة المخفضة للدولار الذي وفره لهم بنك السودان، ولذلك فإن الرأي عند أهل الاختصاص يدعو إلى وقف دعم الدواء المستورد، وتوجه الحكومة الدعم إلى الإمدادات الدوائية والى التأمين الصحي، فيستفيد منه المواطن مباشرة، والأهم من هذا دعم صناعة الدواء في السودان، ومن خلال تجربتي الشخصية فإن الدواء السوداني أفضل في كثير من الأحيان من الدواء المستورد، ولا توجد مقارنة البتة في الأسعار، وهو يضمن لك استمرار استخدام نوع واحد، ولذلك صرت لا أستخدم أي دواء مستورد إذا كان موجود منه سوداني، ولقد تأكد للناس جميعا أن البندول ومشتقاته ومسمياته السوداني أفضل بكثير جدا من كل المستورد، ولكنها مافيا الدواء التي لها أيد وأصابع في كل مكان، في العهد السابق، وفي العهد الحالي أيضا.
أما حديث السيد محافظ بنك السودان، فهو يتعلق بالشق الثاني من حديث السيدة وزيرة المالية، وهو الجانب الخاص بالسياسات، وبرغم أن حديثه الذي استمعت إليه في اذاعة أم درمان لم يكن مفصلا، لكنني وجدت فيه ملامح سياستين للصادر والوارد اطلعت عليهما منذ العهد السابق، وبشرت بهما، وهما من شخصين عارفين وعاملين في المجال، ومجربين، واحدة سياسة خاصة بالصادر أعدها السيد وجدي ميرغني محجوب، الاقتصادي الوطني المعروف، والمنتج الحقيقي، وأعد وجدي هذه السياسة عندما كان رئيسا لغرفة الصادر في اتحاد أصحاب العمل، وتهدف السياسة إلى رفع الصادرات السودانية إلى عشرة مليارات من الدولارات خلال عامين فقط، والدراسة الثانية أعدها السيد خضر رضوان، وهو أيضا كان رئيسا لغرفة الصادر في وقت سابق، ومما أذكر أن خضر قسم الصادرات السودانية إلى ثلاثة أو أربعة درجات، وكذلك الواردات، الدرجة الأولى من الصادرات هي الذهب والصمغ العربي، والثروة الحيوانية، والقطن، وهذه تخصص للواردات من الدرجة الأولى المشتقات البترولية والدقيق والدواء، وفي المرحلة الثانية من الصادرات تأتي منتوجات زراعية وحيوانية غير التي في الدرجة الأولى، وهذه توجه إلى استيراد مدخلات الإنتاج الزراعي، والصناعي، والمواد الغذائية الأساسية، وتأتي في الدرجة الثالثة من الصادرات منتوجات زراعية أخري يمكن تصديرها، ولها أسواق خارجية، ومنها الخضروات والفواكه، وهذه يمكن أن يمنح المصدر نسبة من عائد صادرها المطلق، ونسبة أخري توجه إلى استيراد سلع غير أساسية، وأعتقد أن هاتين السياستين، وسياسة أخري كان قد أعدها اتحاد أصحاب العمل وكان للدكتور الفاتح القرشي له الرحمة والمغفرة دور كبير فيها، وسياسات أخري أعدها خبراء ومختصون يمكن أن تسهم في معركة محاصرة جنون الدولار في السودان.
ولا بد أن أسأل في ختام هذا المقال عن صحة ما يتداوله الناس بأن بنك السودان وضع مدخلات صناعة التبغ والسجائر من المواد الأساسية التي يخصص لها جزء من عائدات الصادر الأساسية لاستيرادها، فلو صح ذلك، فهذه جريمة ضد الإنسانية قبل أن تكون جريمة ضد الدولة، وضد الثورة.