تأملات – جمال عنقرة – جبريل إبراهيم .. حوار البشارات والمحاذير

لم أتمكن من متابعة الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة مع رئيس حركة العدل والمساواة الدكتور جبريل إبراهيم، ولكن نشكر للأخ الصديق الأستاذ بكري المدني رصد الحوار، ونشره علي نطاق واسع، فوسع بذلك دائرة الإطلاع عليه، رغم أن كثيرين قد انصرفوا عن مضمون الحوار، والدلالات المهمة له، إلى قضايا فرعية، منها دلالات رصد الأخ بكري المدني للحوار ونشره، وذهبوا في ذلك مذاهب عدة، ثم دخل البعض في متاهة أخري هي من محاذير ما حواه الحوار، فقفزوا إلى فاعلية الدكتور جبريل في حال إضافته إلى عضوية مجلس السيادة الانتقالي ضمن ممثلي الحركات المسلحة، وهذا أمر نعود إليه عندما يأتي الحديث عن المحاذير.
أهم ما ورد في حديث الأخ جبريل هو ضرورة تمليك روح ونصوص الاتفاق إلى المواطنين، وهذا من شأنه أن يجذب للسلام مناصرين من أهل المصلحة الحقيقيين، من غير عضوية الحركات الموقعة علي اتفاقيات السلام، وهذا أمر غاية في الأهمية، إذ أن السلام لا يهم الموقعين عليه وحدهم، وإنما يهم أهل المنطقة كلهم، وتمتد أهميته لأهل السودان جميعا، وهنا تأتي نقطة مهمة تحدث عنها الدكتور جبريل، وهي مخاطبة الإتفاقية لجذور الأزمة التى قادت للحروب، وهذه مسألة مطلوبة لأن العلاج الشافي لن يتحقق بغير مداواة الأزمة من جذورها، ثم تأتي قضية أخري لا تقل أهمية عن تلك، وهي قضية عودة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم، وهنا دائما أستدل في مثل هذه الحالة بحديث واحدة من النازحات في معسكر (أبوشوك) في الفاشر، فلما تحدث الناس عن عودة النازحين قالت عبارة مختصرة مفيدة، هي واحد من أمثلة دارفور البليغة، فقلت (دحرجي واطة ألمي براهو بجري) بمعني أن الأرض لو صارت منحدرة فإن الماء سوف يجري من أعلي إلى أسفل دون أن يدفعه أحد لذلك، وهي تعني إذا توفرت سبل العودة للنازحين فلن يكونوا بحاجة إلى من يدفعهم إلى العودة.
كذلك تحدث الدكتور جبريل عن تعديل مسار الاقتصاد السوداني، وبالفعل لن يحدث استقرار في السودان، ولن ينجح اي مشروع للسلام، ما لم ينصلح حال الاقتصاد السوداني، ولن ينصلح حال الاقتصاد في بلدنا ما لم يتم تعديل مساره، فالناس كثيرا ما يتحدثون عن السودان البلد الغني بموارده، ولكن لم تبن أي سياسة اقتصادية تستنهض هذه الموارد، فالناس كثيرا ما يتحدثون عن المنح والاعانات، وعن أصدقاء السودان، ولكنهم لا يلتفتون إلى موارد السودان، ولا إلى إنسان السودان المنتج، بل إن كثير من السياسات الاقتصادية التي يزعمون أنها إصلاحية تأتي خصما علي الإنتاج والمنتجين، ومن غرائب الصدف أن كثير من مناطق الحروب هي أكثر المناطق تبشيرا بنهضة السودان الاقتصادية، فمناطق دارفور مثلا، وبعض مناطق كردفان، وكذلك النيل الأزرق، هي أغني مناطق البلاد في الثروة الحيوانية، ولا تحتاج نهضة وتنمية هذه الثروة العظيمة أكثر من حصاد مياه تهطل من السماء، وتحسين مراع طبيعية تنمو هكذا، ولقد كتبت قبل سنوات مقالا ذكرت فيه أن 20% مما أنفق في السدود، لو وجه إلى حصاد مياه الخريف في دارفور وكردفان، لجاء عائده أضعاف مضاعفة من عائد السدود كلها، ولذلك يجب أن يلفت حديث الدكتور جبريل إلى تعديل مسار الاقتصاد السوداني، إلى تركيز توجيه الموارد في دعم المسألة الإنتاجية في مناطق الإنتاج في المناطق التي كانت متأثرة بالحروب والنزاعات، وإنتاج هذه المناطق الزراعي بشقيه النباتي والحيواني هو الذي يأتي للسودان بالعملات الأجنبية التي ظل يعاني منها سنين عددا.
أكثر المحاذير وأكبر المخاطر التي وردت في حديث الدكتور جبريل، والتي يمكن أن تنسف مكتسبات السلام كلها، ناهيك عن الجوانب المشرقة في حديثه الذي أشرت إليه، هي إجابته علي سؤال المحاصصة، ولقد حوت الإجابة علي مغالطة ما كان لها أن تفوت علي فطنته، فعندما سئل عن المحاصصة، قال إن الذين يرفضون المحاصصة هم الذين كانوا يستأثرون بالحكم، وقال إنهم يحلونها لأنفسهم ويحرمونها علي الآخرين، وفي هذا الحديث خلط كبير، فلو كان يعني بالذين يحكمون أهل مناطق معينة، ففي العهد السابق كان أبناء دارفور الأكثر استئثارا بالوظائف الدستورية في الدولة عبر مشاركاتهم بواجهات متعددة، وهذا ليس ما نعنيه، ولكن المعني والمرفوض هو المحاصصة في الحكم الانتقالي، وهذا هو عمق أزمة الحكومة الانتقالية، وأزمة الحاضنة السياسية، قوي إعلان الحرية والتغيير، ولا نريد لمجموعة مسارات سلام جوبا أن تزيد الطين بلة، ولذلك ذكرت في مقال سابق عن سلام جوبا، أن تقتصر مشاركة الحركات في المجلس السيادي، وأن يتم حل كل الأجهزة التنفيذية الأخري التي تم تشكيلها علي أساس المحاصصة، وأعني مجلس الوزراء، والولاة، ويتم إعفاء كل مديري المؤسسات الذين أتت بهم المحاصصة، ويعاد تشكيل مجلس الوزراء علي أسس الكفاءة والخبرة، وكذلك مدراء المؤسسات علي كافة المستويات، ويكون الولاة من العسكريين المتقاعدين، ومن قدامي الإداريين، أما إذا تمت إعادة تشكيل مجلس الوزراء علي أسس المحاصصة، وأعطيت الحركات المسلحة نصيبها من (الكيكة) فلنقرأ جميعا الفاتحة علي روح المرحلة الإنتقالية وفق هذه المنظومة، والبقية في حياة الجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى