تأملات – جمال عنقرة – تفويض الجيش .. ضرب خارج التختة

لا أدري لماذا البعض لا يزالون يصرون علي الخروج في مسيرات، والهتاف والكتابة داعين إلى تفويض الجيش لاستلام السلطة في السودان، ولا أدري علي أي منطق يستندون في هذه الدعوة الغريبة، والأغرب من ذلك أن الجيش نفسه لم يطلب ذلك، ولم ينشده، ولا يرغب فيه أصلا، وهي دعوة مرفوضة منطقا وعقلا، وتجارب التاريخ تهزمها، ولا تمنحها أدني فرصة للقبول.
وأذكر أنى سألت أحد الذين ينادون بذلك، ولا زلت أتساءل، أي جيش يريدون تفويضه لاستلام السلطة، هل هو الجيش الذي قائده العام الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، ويمثله في مجلس السيادة الانتقالي الحاكم للبلاد السيد البرهان، وزملاؤه الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) والفريق ركن شمس الدين كباشي، والفريق ركن ياسر العطا، والفريق ركن إبراهيم جابر، ويقود هيئة أركانه الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين، ونوابه المحترمون، أم هو جيش آخر، فلو أنهم يقصدون الجيش الذي يقوده السيد البرهان ومجموعته الكرام، فهذا الجيش هو الشريك الفاعل في صناعة الثورة، وهو اليد اليمنى للدولة، وهذا لا يحتاج إلى تفويض، ولقد فوضه الشعب كله عندما توجه صوب القيادة العامة وهو يهتف (شعب واحد جيش واحد) ثم فوضته آليات الثورة لتكون له اليد العليا في حكم الدولة مع شركائه المدنيين، أما إذا كان يعني هؤلاء أن تخرج مجموعة دون هؤلاء من داخل المؤسسة العسكرية، وتزيحهم من قيادة الجيش والدولة والحكومة، وتزيح معهم شركاءهم المدنيين، وتحكم هي، أو تأتي باخرين يحكمون تحت غطائهم كما حدث في الخامس والعشرين من مايو عام 1969م، أو كما حدث في الثلاثين من يونيو عام 1989م، فذلك يعني انقلابا علي الثورة، وعلي الشرعية الدستورية المستمدة من وثيقة الحكم الدستورية الإنتقالية، وانقلاب علي الجيش نفسه، وهذا يعني أن هؤلاء لم يستوعبوا بعد الذي حدث، ولم يستفيدوا من دروس التاريخ وعبره، فالسودان والسودانيون قد طووا صفحة الانقلابات إلى الأبد، ولقد تواطأ السودانيون علي أن انقلاب الإنقاذ هو آخر انقلاب يحدث في السودان، ولا انقلاب بعده بإذن الله تعالي، وحتى الذين كانوا وراء انقلاب الإنقاذ من بعض قيادات الجبهة الإسلامية لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا لما اتخذوا قرار الإنقلاب مرة أخري، والدرس الذي استفادوه شبيها بدرس الشيوعيين من انقلاب التاسع عشر من يوليو 1971م، صحيح أن الشيوعيين لم يعترفوا صراحة بانقلاب يوليو 71، رغم كل الشواهد والثوابت والأدلة، ورغم ما دفعوا من ثمن باهظ فقدوا فيه قياداتهم التاريخية والفكرية والتنظيمية والعسكرية، إلا أن بعض الإسلاميين الذين كانوا شركاء في انقلاب الإنقاذ أعلنوا صراحة الندم والتوبة، وعدم تكرار التجربة مرة أخري، وكان زعيمهم الراحل الدكتور حسن الترابي أول من أعلن التوبة والندم، والعزم علي عدم العودة مرة أخري، وفعل ذلك قبل عشرين عاما من سقوط الإنقاذ، لذلك لا مبرر لأحد اليوم للدعوة، أو التهيئة لانقلاب جديد في السودان.
هذا لا يعني بالطبع أن يقبل الناس بالوضع القائم الآن كما هو، بكل علله وسوءاته، وهذا الوضع لو استمر علي ما هو عليه سوف يورد البلاد موارد الهلاك، وكثيرون يعتقدون أنه قد أوردها بالفعل موارد الهلاك، ويستدلون علي ذلك بالسياسات والمواقف الداخلية والخارجية التى تزيد كل يوم الطين بلة، ولكن العلاج قطعا لن يكون لا بانقلاب عسكري يقوم به ضباط متهورون – إن وجدوا – ولا هو كذلك قرار فردي يتخذه العسكريون وحدهم بمعزل عن شركائهم المدنيين، ولقد ذكرت في أكثر من مقال سابق أن علة هذا الحكم تكمن في منظومة الجهاز التنفيذي، وقلت ان الجهاز التنفيذي المعلول لا يقف عند حد مجلس الوزراء وحده، ولكنه يشمل كل التنفيذيين الذين تم اختيارهم علي أساس المحاصصة الحزبية، فيشمل الولاة وكل مدراء المحاصصة الحزبية علي كافة المستويات، ولن ينصلح حال الحكم في السودان ما لم يتم تغيير كل هؤلاء الذين أتت بهم المحاصصة الحزبية، وهؤلاء نرفع أمرهم إلى مجلس السيادة بشقيه العسكري والمدني، وكذلك الذين سوف يضافون إليهم من قادة الحركات المسلحة الذين وقعوا علي اتفاقيات السلام في جوبا، والذين يمكن أن يلحقوا بقطار السلام من الذين لم يتوصلوا بعد إلى تفاهمات مع الحكومة، وأعني تحديدا القائدين عبد الواحد محمد نور، وعبد العزيز الحلو، وتلك فرصة للتحذير مرة أخري من إشراك الحركات المسلحة في الجهاز التنفيذي، فذلك لا يزيد الطين بلة فقط، ولكنه قد يقود إلى (طمبجة) لذلك نرجو أن تقف مشاركة الحركات المسلحة في المجلس السيادي فقط، ولا يدخلون في (معمعة) الحكم التنفيذي المختلة، ويقودون مع شركائهم الآخرين العسكريين والمدنيين مشروع إصلاح وتصحيح مسيرة الحكم في السودان من خلال وجودهم في أعلي سلطة في المجلس السيادي، وأتمنى أن يكف الذين يهرفون بتفويض الجيش عن هذا الهراء، فذلك ضرب خارج التختة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى