بعْدٌ .. و.. مسَافَ_ مصطفى أبوالعزائم _ “ودنوباوي” الشهد والدموع (!)

بعْدٌ .. و.. مسَافَ_ مصطفى أبوالعزائم _ “ودنوباوي” الشهد والدموع (!)
حي “ودنوباوي” واحِدٌ من أحياء مدينة أم درمان القديمة ، وهي مدينةٌ تأسّست فعلياً في السابع والعشرين من يوليو عام 1885م أي بعد شهر واحد من وفاة الإمام محمد أحمد المهدي ، عندما أمر الخليفة عبدالله في منشور صدر عنه كل سكان الخرطوم بإخلائها ، والإنتقال إلى أم درمان للسّكن بها ، واعطى سكان الخرطوم مهلة لتنفيذ الأمر والإمتثال له ، لكنه أضطر إلى تليين موقفه بعد أن كان كثير من الأنصار قد تصاهروا مع قاطني الخرطوم من سودانيين و (أولاد ريف) خاصة من موظفي الحكومة التركية المصرية التي أطاحت بها الثورة المهدية .
وقسّم الخليفة عبدالله المدينة إلى مناطق وأحياء تضم الأمراء وقادة الجيوش أو القبائل وأسماها بأسمائهم ، فنشأت أحياء ودنوباوي وأبوروف وأبوكدوك ، وحي العمدة والمسالمة والركابية وبيت المال الذي ضم بيت مال الدولة الإسلامية الجديدة وبيت الأمانة والعرضة وحي الأمراء والعباسية والموردة وغيرها ، وكان حي ودنوباوي من الأحياء ذات المكانة الخاصة بالنسبة للمدينة وقاطنيها لأنه ضم لاحقاً مسجد الإمام السّيّد عبدالرحمن المهدي كما ضم مقر إقامته وعدد كبير من أفراد أسرته حتى أن أكبر و أهم شارع في الحي حمل إسم شارع السيد عبدالرحمن ، وقد ظل هذا الحي يرفد البلاد في حين ووقت بالرجال والنساء في كل المجالات ، وبرزت فيه أسماء كبيرة كما ظلّ الحي ولوداً يقدم القيادات السياسية والإجتماعية والثقافية والاقتصادية لكل الوطن دون منٍّ أو أذى .
لكن حي ودنوباوي رُزِئَ مؤخراً برحيل بعض رموزه العظيمة ، وقد وارينا عصر الأربعاء جثمان فاكهة الحي والمدينة المقدسة ، الهادي نصرالدين فضل الجليل القرشي ، رحمه الله رحمة واسعة وعفا عنه وغفر له واسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ، وهو النسّابة الخبير في الأنساب والعلاقات الإجتماعية ، صاحب العلاقات المتميزة مع كل أهل المدينة التي أسماها البروفيسور الأمريكي روبرت أس كرامر ” مدينة مقدسة على النيل” وأصدر كتاباً عنها ترجمه من الإنجليزية بلغة رائعة رفيعة الأستاذ بدرالدين حامد الهاشمي ، قبل عام تقريباً ، ولكن المؤلف الأمريكي لا أعرف إن كان قد إلتقى بالمرحوم الهادي نصرالدين الذي أُشتهر بإسم الهادي الضلالي ، ويقال إن من أطلق عليه هذه الصفة وألحقها بإسمه كان هو الإمام السّيّد عبدالرحمن المهدي ، الذي بلغه أن الهادي ود نصرالدين بعد أن خرج ذات مساء من درس ديني في المسجد شُوهد في حفل زواج لا يكاد يفارق فيه المسرح الذي اعتلاه الفنان الذرّي إبراهيم عوض ، وعندما أُخبر الإمام عبدالرحمن بذلك ضحك وقال قولته التي ارتبطت بإسم الهادي نصرالدين : ( أمانة ود نصرالدين ده ما ضلالي)
وقبل رحيل الهادي بيوم واحدٍ فقط وارينا جثمان زميلنا الكبير وشيخ المصورين الصحفيين المحترفين الأستاذ عبدالرحيم عوض محمد قيلي الشهير ب(قيلي) الذي عانى كثيراً أواخر أيامه ، وقد سانده في رقدته الأخيرة نفرٌ من زملائه وعارفي قدره وفضله ، وهم كُثُر لا نريد أن نذكرهم بالاسماء ولكن الواجب يقتضي أن نشكر الأخوين الكريمين البروفيسور مأمون حميدة والدكتور حافظ حميدة وشعلة الوفاء زميلنا الأستاذ إمام محمد إمام الذي قام بالواجب وأكثر، وقد كان والدكتور حافظ حميدة في استقبال قيلي عند باب مستشفى يستبشرون وتولوا متابعة حالته حتى لحظة الرحيل .
وغاب عن ودنوباوي رمزها العسكري الحُر الأنصاري الحق سعادة اللواء الركن أبوقرون عبدالله أبوقرون ، الشاعر والملحن وصاحب الأوبريت الأشهر” عزة وعزة” ليصبح الحي النابض بالحياة صامتاً ساكناً لكن لأن أهل المدينة يعرفون أقدار الناس فقد إحتفى به آل الشيخ الأستاذ الطيب السراج علم أم درمان وطودها الراسخ، وذلك من خلال تأبين للراحل أبوقرون نظمته له أسرة الراحل المقيم الأستاذ فراج الطيب بإسم ندوة فراج ، التي كانت إمتداداً لندوة الشيخ الطيب السراج واستمرت لعشرات السنين وكان الراحل أبوقرون أحد مرتاديها ليصبح ركيزة من ركائزها ، وحق لنا أن نتقدم بالشكر لأسرة الأستاذ فراج الطيب السراج وأرملته الوفية الأستاذة إنعام النحاس وأبنائه الأساتذة الطيب ورشاد ومحمد بعد انقطاع إستمر لعشرين عاماً ، كان لنا شرف المشاركة فيها مع أبناء الراحل أبوقرون عبدالله أبوقرون ، رامي ورافع وبدر ، وحق لنا أن نشكر الأخ الكريم الشاعر والباحث والأديب الدكتور عبدالقادر احمد سعد ، وكل الذين زيّ ندوة الجمعة في الثامن والعشرين من أغسطس الماضي .
وكنا قد فقدنا أستاذنا الكبير خلال الفترة الماضية الصحفي المرموق كمال حسن بخيت الذي أقام لسنوات في هذا الحي الذي لم تنقطع الحياة عنه أبداً حتى مع الرحيل المر لقامات سامقة .
حي ودنوباوي لا ينسى أبناءه وأم درمان كذلك .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى