تأملات – جمال عنقرة – جوبا .. خطوة علي طريق السلام

سمعت وقرأت أكثر ما قيل عن اتفاقات السلام التى وقعت أخيرا في مدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان بين الحكومة الانتقالية وبعض الحركات المسلحة، وجماعات ومجموعات أخري عبر مسارات شتي، ورغم أني أتفق مع كثير مما قيل في بعض جوانبه، سواء كان رافضا للاتفاقات أو داعما لها، لكنني لم أجد عبارة أصدق في مدلولها من إفادة أدلي بها الدكتور جمعة كندة مستشار السيد رئيس الوزراء الانتقالي للسلام، وهي عبارة خبير عليم، ملم بتفاصيل عملية السلام في السودان، صادق مع نفسه وأهله، ومع الذين وضعوه في هذا الموقع المهم، فلقد وصف دكتور كندة الاتفاقات في حديث لراديو أم درمان بأنها خطوة في طريق السلام.
وكما هو معلوم أن الحركات التى وقعت علي مسارات جوبا يوم أمس الأول هي حركات رئيسة، ولكنها قطعا ليست الحركات الوحيدة الموجودة علي ساحات القتال، بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك، ويقول أنها ليست الحركات الأهم في الميدان، والمعلوم والثابت أيضا أن كل هذه الحركات كانت قد وقعت اتفاقات سلام مع النظام السابق، وصارت جزءا من حكوماته المتعاقبة، لا سيما في الفترة ما بين اتفاق سلام نيفاشا الذي تم توقيعه بين حكومة الإنقاذ والحركة الشعبية في العاصمة الكينية نيروبي في التاسع من يناير عام 2005م، وحتى انفصال الجنوب في العام 2011م، بل إن بعض الحركات كانت أسبق في الاتفاق مع نظام الإنقاذ ومشاركته الحكم، مثل حركة السيد منى أركو مناوي، وحتى بعد خروج هذه الحركات من الإنقاذ وعودة الصراع المسلح بينها وبين الحكومة، ظلت حبال التواصل والحوار ممتدة بينها وبين النظام السابق، ولا أود بذلك أن أقول أنه ليس هناك جديد في اتفاقات جوبا الأخيرة، ولكن يجب أن نقر أنها لم تشمل الجميع، وهذا ما يجعلها مجرد خطوة مهمة في طريق السلام، وهذه الخطوة يمكن أن تكون تمهيدا لسلام أشمل يأتي بعدها، أو أن تشكل عائقا، أو قد تقود إلى انفجار أسوأ من كل الذي كان، ولذلك يجب التعامل معها بوعي ومسؤولية.
وبرغم أني شخصيا أتمني أن يقود سلام جوبا إلى سلام شامل، وسوف أسعى مع كل الساعين بإذن الله تعالي لتحقيق ذلك، لكنني أري أن المحاذير أكثر من المبشرات، وأول مخاطر هذه الاتفاقات أن البعض ضخمها بأكثر من حجمها، وصورها وكأنها خاتمة مطاف السلام، والبعض عمل علي تضخيم بعض مكوناتها بأكثر من واقعهم، وأكبر من حجمهم الطبيعي، ثم أن زعم البعض تمثيل مناطق لا يمثلون كل أهلها قد يباعد بين الحكومة وبين آخرين فاعلين علي الأرض، ولعل هذا يبدو ظاهرا في حالة منطقة جنوب كردفان التى وقع عن مسارها باسم الحركة الشعبية قطاع الشمال السيد مالك عقار، وكما هو معلوم فانه لا السيد عقار، ولا كل الذين معه في هذا القطاع من أهل جناحه ليس لهم وجود يذكر في جنوب كردفان مقارنة بالسيد عبد العزيز الحلو، ومن شأن هذا أن يعقد الحوار بعد ذلك بين الحكومة وبين السيد الحلو، وقد يقود إلى توترات علي الأرض، ولو من باب إثبات الذات، ثم أن كل الذين وقعوا علي مسارات سلام دارفور لا يقتربون من المساحات السكانية والجغرافية التى يمثلها السيد عبد الواحد محمد نور، وهذا قد يغلق أبواب حوار كانت متاحة مع السيد عبد الواحد، أو قد يضاعف كلفتها علي أقل تقدير، وما قيل عن شأن مسارات دارفور، يصدق وبصورة أقوي في مسار الشرق، الذي كنا نتمني أن تصدق إشاعة تأجيل التوقيع عليه، وهذا أمر وصل درجة من التعقيد لم أعد أري في الأفق القريب بوادر حل لأزمته في ظل المعطيات الماثلة. أما بالنسبة لمسارى الوسط والشمال، فهما مساران مصنوعان، وهما عندي كأنهما لم يكونا.
أخطر ما في هذه الاتفاقات أنها أسست لمحاصصات من شأنها أن تعمق جذور أزمة الحكم في المرحلة الإنتقالية، وعيب هذا التخصيص أنه سوف يصرف الناس عن كل الإيجابيات التي حملتها هذه الاتفاقات، وأهمها مخاطبة جذور مشكلات عميقة أغفلتها اتفاقات سابقة، ولكن الذي سيحدث أن الناس سوف ينصرفون عن كل هذه المكاسب، وينكبون علي الوظائف التى خلقتها هذه الاتفاقات، ونخشي أن يكون ذلك بمثابة القشة التى سوف تقصم ظهر جوبا، والحافظ الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى