
بقلم : دكتور عبد الناصر سلم
من يقرأ المشهد السوداني اليوم يدرك أن ما يجري يتجاوز منطق الحرب التقليدية أو “الخلاف السياسي” الذي يمكن احتواؤه بضغط خارجي أو تسوية فوقية. فالأزمة منذ 15 أبريل، ثم لحظة سقوط الفاشر، كشفت أن السودان بات ساحة يُعاد فيها تعريف مركز الدولة لا عبر المؤسسات، بل عبر القوة، وعبر وساطة دولية تتعامل مع الخراب باعتباره واقعًا جديدًا يجب البناء عليه لا رفضه.
في هذا السياق، جاء خطاب الفريق أول عبد الفتاح البرهان الأخير. لم يكن مجرد ردٍّ سياسي على مبعوث واشنطن ماسعد بولس، بل كان إعلانًا صريحًا بأن مقترح الرباعية لا يشكل “خارطة سلام”، بل مشروعًا لإعادة صياغة الدولة السودانية عبر توازنات القوة التي فرضتها الحرب. حين قال البرهان: “الورقة التي قدمتها الرباعية تلغي وجود القوات المسلحة وتحل الأجهزة الأمنية وتُبقي المليشيا في مكانها”، كان يضع إصبعه على جوهر ما يُراد للسودان: دولة يُصنع مركزها من الخارج، لا من داخلها.
لفهم هذا التحول، يجب النظر إلى الفاشر. المدينة التي مثلت لسنوات آخر موطئ سيادة للدولة في دارفور، خضعت لحصار طويل قارب العام والنصف، وفق تقارير أممية ومنظمات بحثية. كان الحصار عملية تفريغ بطيئة للمدينة: طرق مغلقة، إمدادات مقطوعة، ممرات إنسانية خاضعة لسيطرة طرف واحد. وبعد السقوط، خرجت شهادات موثقة — من ناجين وباحثين حقوقيين — تؤكد وقوع انتهاكات واسعة شملت عمليات قتل، اعتداءات جنسية، ونهب منهجي. ورغم غياب إحصاء نهائي بسبب محدودية الوصول، فإن حجم الخسائر يشير إلى أن السيطرة لم تكن “عسكرية فقط”، بل كانت إعادة تشكيل قسرية للمدينة
وبحسب المعطيات الميدانية المتداولة، أصبحت الفاشر الآن تحت سيطرة قوات الدعم السريع بنسبة 100%، مع غياب أي وجود فعّال للقوات الحكومية داخل المدينة. ولم يكن هذا التطور حدثًا ميدانيًا فقط، بل تحولًا سياسيًا عميقًا. إذ اعتُبر — في تحليلات نُشرت عن مؤسسات دولية مثل معهد الدراسات الأمنية ومراكز بحثية أخرى — انهيار آخر خط سيادي للدولة في دارفور، ونقطة انتقال في طبيعة الحرب نفسها، إذ دفع بعض العواصم إلى التعامل مع السيطرة الميدانية باعتبارها واقعًا ينبغي إدماجه في أي تسوية سياسية مقبلة. وهكذا تحولت الوساطة الدولية، في منظور هذه التحليلات، من محاولة لإنهاء الحرب إلى محاولة لإعادة رسم شكل الدولة على أساس الوقائع لا الشرعية.
هذا التحول بدا واضحًا في بنود مقترح الرباعية. فوقف إطلاق النار مع بقاء كل طرف في مناطق سيطرته يعني الاعتراف السياسي بسيطرة الدعم السريع على دارفور وأجزاء واسعة من الخرطوم. كما أن إدخال المساعدات دون ترتيبات أمنية واضحة يعفي الطرف المسيطر ميدانيًا من أي التزام، ويضع العبء على الحكومة وحدها. أما بند إبعاد العسكريين عن المشهد فورًا، قبل أن تستعيد الدولة سيطرتها على الأرض، فهو تفريغ لمركز السلطة في لحظة خطرة، وفتح الطريق لسلطة مدنية تُبنى على أساس توازن القوة الميداني، لا على أساس السيادة.
كما يتضمن المقترح بندًا أكثر خطورة: حل جهاز المخابرات العامة واستبداله بجهاز جديد. هذا ليس إصلاحًا إداريًا، بل تفكيكًا مباشرًا لأحد أهم أعمدة الدولة في لحظة حرب، حيث تمثل الأجهزة الأمنية “العصب السيادي” للدولة. تفكيك هذا الجهاز يعني فقدان القدرة على رصد التهديدات، وتعقب التمويل الخارجي، وحماية ما تبقى من تماسك المؤسسات. لذلك قال البرهان إن المقترح “إلغاء كامل لأجهزة الدولة”، وهي عبارة دقيقة من الناحية المؤسسية.
كما تتضمن المبادرة الدعوة إلى “حوار مدني–مدني” تحت إشراف خارجي، وهو ما يعني إنتاج سلطة سياسية جديدة، لكن على أرض لا تسيطر عليها الدولة. هنا يصبح الحوار وسيلة لإعادة تدوير نخبة مختارة خارجيًا، لا تعكس توازنات المجتمع، بل توازنات القوى التي فرضت نفسها بالسلاح. ولهذا قال البرهان: “لن يُفرض علينا حميدتي أو حمدوك… ولن يُحكم السودان من الخارج.” هذه ليست قضية أسماء، بل قضية سيادة.
خلف هذه المقترحات تقف رؤية غربية واضحة: السودان ليس دولة مركزية ذات سيادة، بل ساحة جيواستراتيجية على البحر الأحمر، ونقطة تماس بين واشنطن والخليج وروسيا والصين. وفي مثل هذه الساحات، تفضّل بعض العواصم “الدولة القابلة للإدارة” على “الدولة القوية المستقلة”. وهو نموذج جُرّب في العراق وليبيا والبوسنة، وكانت نتيجته دائمًا دولة ضعيفة، وسلطة متعددة الرؤوس، وعنف لا ينتهي.
لكن السودان — بعمقه التاريخي والجغرافي — ليس هذه النماذج. فهو بلد إذا ضعف مركزه تفككت أطرافه، وإذا انهارت مؤسساته الأمنية انهار كامل الإقليم. لذلك، فإن أي تسوية لا تقوم على استعادة الدولة لاحتكارها للقوة المنظمة ليست سلامًا، بل تأجيلًا للانفجار. وأي انتقال سياسي لا يستند إلى مركز دولة مستقر لن ينتج سوى سلطة شكلية فوق واقع ميداني متفجر
ومع أن الدولة ارتكبت أخطاءً في إدارة بعض الملفات قبل الحرب، إلا أن مسؤولية الإصلاح شيء، ومسؤولية حماية الدولة شيء آخر. لا يمكن إصلاح دولة تُسحب منها أجهزتها الأمنية وهي في خضم حرب. ولا يمكن بناء مدنية فوق فراغ سيادي. ولا يمكن إجراء حوار سياسي بينما طرف مسلح يفرض إرادته على الأرض.
وهكذا يصبح موقف الجيش — كما عبّر عنه البرهان — ليس دفاعًا عن “سلطة”، بل دفاعًا عن حق الدولة في الوجود. فالدولة لا تعاد بناؤها تحت تهديد السلاح، ولا تُكتب دساتيرها في ظل قوة متمردة تتحكم في مدن كاملة، ولا يستعاد الاستقرار عبر وصفات دولية تساوي بين الدولة وقوة خارجة عليها.
في جوهر الصراع اليوم مشروعان:
مشروع خارجي يريد سودانًا موزعًا على خطوط “إدارة النفوذ”، مفكك المركز، ضعيف السيادة، خاضعًا لميزان القوى الإقليمي والدولي.
ومشروع داخلي يريد دولة واحدة، بقرار واحد، لا تُكتب سياساتها في قاعة مفاوضات خارج الخرطوم.
وبين هذين المشروعين يُكتب مستقبل السودان.
الدول لا تسقط فقط عندما تُهزم في المعارك، بل عندما يُنتزع مركزها، وتُعاد صياغتها من الخارج، وتُفرغ من مؤسساتها، وتُدار بمنطق “الاستقرار المُصطنع”.
وفي السودان اليوم، ليست المعركة على حكومة انتقالية، بل على تعريف الدولة نفسها: من يملكها؟ من يحدد مركزها؟ ومن يكتب مستقبلها؟
ومن يفرّط في المركز… يفرّط في الدولة.
د. عبدالناصر سلم حامد
باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
مدير برنامج شرق أفريقيا والسودان – FOx Research – السويد



