يشهد السودان اليوم تحوّلًا نوعيًّا في خطابه الدبلوماسي عقب جرائم الفاشر، حيث أعادت وزارة الخارجية، بقيادة الوزير محيي الدين سالم، رسم صورة السودان على خارطة الموقف الدولي، بلغة جديدة تجمع بين الحزم والسيادة والوعي الوطني.
لم يكن الحراك الدبلوماسي الأخير مجرّد ردّة فعل عاطفية، بل شكّل انتقالًا من موقع الدفاع والقول إلى موقع الهجوم والفعل، بعد أن وضعت الخرطوم المجتمع الدولي أمام مسؤوليته الأخلاقية والقانونية تجاه ما جرى ويجري.
فمنذ اللحظات الأولى، تحرّكت وزارة الخارجية عبر بيانات حاسمة واتصالات مكثفة مع العواصم الإقليمية والمنظمات الدولية، مطالبةً بتصنيف ميليشيا الدعم السريع منظمةً إرهابية، ومحمّلةً الإمارات المسؤولية الكاملة عن دعمها بالمال والسلاح والمرتزقة.
وفي الوقت نفسه، نشطت السفارات السودانية في الخارج عبر مؤتمرات صحفية ولقاءات مع وسائل الإعلام وممثلي الدول، لتوضيح الحقائق الميدانية بالصوت والصورة، مقدّمةً أدلة دامغة على الجرائم التي ارتكبتها الميليشيا في الفاشر ودارفور.
في لاهاي، وبرلين، وأنقرة، وأديس أبابا، صدرت بيانات متزامنة من البعثات السودانية تؤكد الموقف الرسمي، وتدعو لاتخاذ خطوات عملية لوقف الدعم الخارجي للمتمردين، بينما قدّم مندوب السودان في جلسة مجلس الأمن بيانًا يُدرّس، طالب فيه بتصنيف الدعم السريع كـ«ميليشيا إرهابية» ومحاكمة قادتها على جرائم الحرب والإبادة.
هذا الحراك أعاد للدبلوماسية السودانية حيويتها ومركزها القيادي في معركة الوعي الدولي، بعد محاولات التعتيم والتشويش الإعلامي التي قادها داعمو الميليشيا.
ولعلّ أهم ما يميّز هذه المرحلة أن الخطاب السوداني أصبح أكثر صراحةً وحزمًا، فلم يعد يتردد في تسمية الجهات المتورطة أو التلويح بإجراءات مقابلة ضد الدول التي تغضّ الطرف عن الجرائم.
وقد تجلّت هذه الصراحة بأوضح صورها في كلمة وزير الخارجية محيي الدين سالم خلال تأبين الشهيد والمناضل الوطني الحُر الناظر “عبد القادر منعم منصور – عليه رحمة الله” – حين قال بوضوح وحرقة:
> «إن كنتم تنتظرون عونًا من هذا العالم الظالم، فعلى الدنيا السلام».
لم تكن تلك العبارة مجرّد انفعال لحظة، بل إعلانًا واضحًا عن ميلاد خطاب وطني يضع كرامة الوطن فوق أي حساب سياسي، ويعيد ترتيب العلاقة بين الداخل والخارج على أساس من السيادة والندية.
الوزير تحدّث بلسان القلب والضمير، وجسّد في كلمته روح الدبلوماسية الجديدة — دبلوماسية تخلع ربطة عنقها الرسمية لتخاطب الشعب بصدقٍ يعيد الوعي، حين قال:
> «هذا العالم مات فيه الضمير، وشهداء الفاشر أيقظوه».
بهذه الكلمات، انتقل الخطاب السوداني من مربع التبرير إلى فضاء المواجهة الأخلاقية والسياسية مع العالم، ونقل المعركة من الميدان إلى المنابر، وأعاد رسم السردية الحقيقية أمام الرأي العام الدولي.
لم يكن استدعاء الوزير لتاريخ السودان ورموزه الوطنية مجرد حنين إلى الماضي، بل توظيفًا واعيًا للذاكرة الوطنية كقوة سياسية حاضرة، حين قال:
> «أجدادنا لم يملكوا ما نملك اليوم، لكنهم امتلكوا الإرادة التي تصنع المعجزات».
* فهو بذلك يربط بين الإرث النضالي الماضي ووحدة الصف في معركة الحاضر، مؤكدًا أن الدبلوماسية لا يمكن أن تنتصر في الخارج ما لم تنتصر أولًا معركة الإرادة في الداخل.
خلاصة القول ومنتهاه
أن السودان اليوم يشهد ميلاد مرحلة جديدة من الوعي السياسي والدبلوماسي، مرحلة تتكامل فيها معركة الميدان ومعركة المنبر، وتتحول فيها الفاشر من جرحٍ نازف إلى منطلقٍ لتحرك وطني ودبلوماسي متّقد بالثقة والإرادة.
فمن رحم المأساة ودماء الشهداء، وُلدت دبلوماسية سودانية تعرف من أين تبدأ، وإلى أين تتجه ، دبلوماسية وطنية حُرّة، مطلبها العدالة، وما ضاعت عدالة وراءها مُطالب.
