السر القصاص
حملتنا التصاريف الإلهية وجمعتنا بزمرة من قيادات العمل الصحفي ، وجتمعنا في رحاب الولاية الشمالية تحديدا قرى ومدن كورتي القرير ونوري حتى مروري ،التقينا انا وطلال اسماعيل وعبد الماجد عبد الحميد دونما مواعيد مسبقة ،
كل في مهمته التى جاءت به الى موقعه المعني ، وطالما اننا هنا ، اتفقنا على أن نزور الأستاذ والرقم الصحافي رحاب طه ، عطار الوفاق ووراق زمانه ، زرناه في دارهم بالقرير حي الشاطئ المدينة التى أنجبت الافذاذ وتميزت بأهل الفنون والصحافة .
دخلنا داره الواسعة الفسيحة والتى أعاد تشيدها بعد عودته اثر اندلاع الحرب ، منذ أن استقبلنا إبنه مجاهد رحاب طه وحتى دخولنا باب الحوش كانت المشاعر كلها محجوزة لدائرة التساؤل ، كيف وضعه ؟ أن شاء الله صحته كويسة ؟
في الفناء الخارجي تقف أعواد النخيل وهي تروى قصة رحاب طه ، إبن وإنسان المنطقة ، أكثر اعتدالاً , والتصاقاً بالأرض والجذور وبالقرير.
في صالون عريض وواسع وضعت سبائط البلح ، فالموسم في هذا الوقت من العام هو موسم حصاد البلح ويقولون (حش التمر).
هذه السبائط من البلح أمام دار وبعض من بسمات التقدير والاحتفاء التى بذلها بسخاء ، مجاهد رحاب طه ، كلها بمثابة عروض لوفدنا الزائر .
كل هذا ونحن ندلف لداخل ، بناية كبيرة ، بداخلها هول كبير يتوسطه صالون ، يجلس بداخله واحد من رموز الصحافة وعطورجي المفردات ، تمنى الراحل ابن البادية أن يكون مثله تاجر يسرح يدور بين حسان الحروف ، يرسم على جيد الكلام بجديد الحروف .
الضانقيل الذى ترأص حاملاً سقف الصالون يتراص كما تتراص لبنات المودة والمحبة والوفاء والتقدير التى تربط وفدنا برحاب طه .
دخلنا عليه وقد أزال بابتسامة أهل الريف وبحصافة كبار القوم  ، أزاح عما كل ما كنا نعتقده بشأن وضعه الصحي ، قابلنا وافقاً و يستعين بمشاية ،
رحاب طه ، فارس الصحافة الغائب اختيارياً بفعل الحرب ، عانى مؤخراً جراء سقوط الواح زنك  عليه حيث هبت عاصفة عنيفة قطعت عليه الطريق فوصلت نيته ولم يصل هو ، رقد بالمسفى متعافياً فتعافى بحمد الله ،
واصل في العلاج حتى بلغ من العافية ما يستوجب الثناء والشكر في كل لحظة ولمحة .
للحظة هايسنا بتقنية الفار لمحات من مشاعر وزكريات شارع الجرائد ورهق صناعة مهمة تموت كل يوم وتحيا حين يستل كل كاتب سيف الحروف ويدخل حلبة الرأي فيقتل كل ضلال ولا يقُتل .
بالتمر والتبلدي والدموع والمحبة والعرفان ، أكرمنا رحاب طه ، بكيت في حضرته وحبست عرمرم سيل الدموع ، سدت غصة الكلام في لسان عبد الماجد عبد الحميد ، الذى تذاكى على دفق مشاعر الوفاء ، بمكالمة هاتفية ، ماكان ليجريها حتى ولو كان وحيداً في ساعة وصالة إنتظار.
رحاب طه الكاتب الثائر ، احد المخبرين في الروايات البوليسية ، وهو شاهد شاف كل حاجة ، أن لم تلتقيه تكاد تكون قد التقيته في الفردوس المطهر في الكوميديا الإلهية لداتني اليجري ، الرجل وقد استعدل عوج غربة أهل الشمال والبعد عن تراب القرير بأن عاد لمهنة الآباء والأجداد في زراعة نخيل التمر فالقنديلا التى تنتج في عموم مروى تكفي حاجة البلاد ، فمابالك بالبركاوي الذى يحتاجه الكل في زماننا هذا.
رحاب طه الذى تفنن في توصيف ما نعيش البلاد من أزمة وجود ، رسم صورة قاتمة ولكن فتح باباً الضوء من بين أعواد النخيل ، الأمر الذى رسم لى ملامح الطيب في موسم الهجرة للشمال أو كما وصفه عزمي عبد الرزاق .
رحاب طه الذى بذل كل سحائب الدمع فرحاً وبشرا وافاض علينا في الكرم والمحبة ، ودعنا إلى خارج الدار يسبقنا بالنية وتكاد رجوله لا تمشى في الأرض ، فالرجل لايجب يرانا أن نفارقه .
في البرهة القصيرة التى قضيتها متلذذا بقطم حبات التمر ، شممت بانفي روائح الورق وسمعت ضجيج صالات التحرير وهتفت في صمتي عاشت الصحافة ، عاشت الصحافة عاشت الوفاق ، وتبسمت ثم فجاء في ذات الصمت لا أهتفت بجملة أخرى ،عاش أبو هاشم.قبل أن يعيدني كأس التبلدي الى حضن النخيل .
عبد الماجد عبد الحميد الذى غادر الدار صامتاً ، تكلم بصورة خافتة طالباً من طلال اسماعيل أن يعيد تشغيل أغنية الزكريات ، انا على الجانب الآخر من الغربة التى غادرت القرير ، احاول جاهداً أن أزيح يد طه شقيق رحاب عن يدي رغم أنني غادرت القرير إلا أن يده لاتزال تصافحني ، وقد التصق بعيناي سمت رجل عاش في الحياة مرتين ، حتى أنني كنت امسح الدمع بخفة كي لا يرى ، على نغمة الزكريات أخذتني قفوة مثلها مثل الأقدار حتى استقيظت وانا بالكيلو 158 في طريقي نحو عطبرة .
قبل الختام
 إلى الحبيب أستاذ رحاب طه .. بعد التحية 
بعد يومين من وصولي إلى وجهتي يا أستاذ رحاب ، وصل التمر الذى حملتنا به أستاذنا رحاب طه إلى دارنا ، وقد تفضلت حرمنا المصون بنثر كنانتكم من التمر على جاراتها المواظبات على زيارة دارنا ، وزعت حوالي ٥ أواني وستوزع ٣ (كورات) أخريات واعتقد اننى سارفع باقي التمر عن متناولها فهذا بلح قنديلا وانني سوف لن اتوانى عن صرف البركاوي أن إحتجنا ، يجدكم بخير .
السر القصاص
يمكنك متابعة القراءة على فيسبوك
