أخر الأخبار

امل ابو القاسم تكتب : الفاشر… لحظة انكشاف الوجوه وسقوط الأقنعة

*كشفٌ صريح للدور الإماراتي في حرب السودان وتحوّلٌ في الوعي العربي تجاه القضية*

*أمل أبوالقاسم*

في خضمّ مأساة الفاشر، المدينة التي صارت عنوانًا للألم الإنساني، انقشعت الغشاوة عن عيونٍ كثيرة كانت تتردد في تصديق ما ظلّ السودانيون يقولونه منذ اندلاع الحرب: أن ما يجري ليس صراعًا داخليًا فحسب، بل حرب تُدار وتُموَّل من الخارج. وقد جاء ما حدث في الفاشر ليمثّل اللحظة الفاصلة التي سقطت فيها الأقنعة، واتضحت فيها الأدوار، وتبدّدت فيها الذرائع التي ظلّت ترفعها بعض الدول بزعم “الحياد” و”الوساطة”.

إن كان ثمة فائدة تُرجى مما جرى في مدينة الفاشر، فهي أنه عرّى الدور الإماراتي في الحرب السودانية أمام الرأي العام العالمي. فالحقيقة التي ظلت حاضرة منذ اندلاع الحرب، لكنها وُوجهت بالصمت والتغافل، خرجت اليوم إلى العلن سافرة لا لبس فيها. لم يعد الأمر خافيًا على الشعوب، إذ أدركت بوضوح حجم تشوين الإمارات وتسليحها للمليشيا ودعمها المادي واللوجستي لحربٍ أرادت بها بسط يدها على السودان وموارده، ولو على أنقاض المدن وأشلاء المدنيين.

ما وقع في الفاشر لم يكن حدثًا عابرًا، بل نقطة تحول كاشفة عرّت النوايا الحقيقية، وأبرزت جوهر المشروع الذي يستهدف السودان أرضًا وشعبًا. فبينما حاولت بعض الحكومات التذرع بالحياد، كانت الشعوب أصدق في رؤيتها، إذ تابعت الفظائع وشهدت حجم الانتهاكات التي اقترفتها المليشيا المدعومة من الخارج.

وفي المقابل، برزت ردود الفعل المحلية والإقليمية من صحفيين ومدونين وصنّاع محتوى وإعلاميين، تعبيرًا عن وعيٍ متنامٍ وإدراك متأخر لقضية السودان وعدالتها. هذه الأصوات التي ارتفعت عبر المنصات المختلفة مثّلت نقلة نوعية في التعاطي مع الحرب، إذ سلطت الضوء على الدول الراعية للصراع والمستفيدة من استمراره، وعلى رأسها الإمارات.

اليوم تجد أبوظبي نفسها في موقف حرج لا تُحسد عليه، بعدما أحاط بها سخط السودانيين ولعناتهم، وبدأ الخارج بدوره يراجع تداخلاتها وأدوارها في أزمات مشابهة بعدة دول. ولعل الهبّة الواسعة ضدها دفعت بعض الأصوات الموالية لها إلى محاولات بائسة للدفاع والتبرير، في وقتٍ آثرت فيه القنوات الرسمية إغلاق التعليقات تجنبًا لموجة الغضب الشعبي.

فما شاهده العالم من مشاهد الفاشر يتجاوز حدود الوصف، من فظائع ومجازر ورائحة موتٍ تخنق المكان. لكن رغم المأساة، يستعيد السودانيون ثقتهم في قواتهم المسلحة، وفي قيادات الحركات التي تعهّدت صراحة باستعادة المدينة وتحرير كل شبر دنّسته المليشيا، مدعومين بوعيٍ شعبي متجذر وإرادة لا تلين.

وإن كان ثمة عبرة، فهي أن على الدول كافة أن تكفّ عن التدخل في الشأن السوداني. فما آلت إليه الأوضاع اليوم لم يكن إلا نتيجة مباشرة لتلك التدخلات، التي أطالت أمد الحرب وزادت معاناة الشعب. كما أن على القيادة السودانية أن توحّد بوصلتها وألا تُبدد طاقتها في محاولات استرضاء هذا الطرف أو ذاك.

لقد شهدت المرحلة الماضية زخمًا من المبادرات والتدخلات التي لم تثمر سوى مزيد من التشتت، وانتهت بسقوط الفاشر الذي كشف النوايا الحقيقية للبعض ممن يتحدثون باسم السودان بينما يخدمون أجنداتهم الخاصة.

ولطالما دعا المخلصون إلى توسيع التعاون شرقًا بدل الارتهان لتأثير الغرب، لكن تلك الدعوات ظلت تصطدم بحالة من الانبهار أو الارتهان السياسي، وكأنما ثمة سحرٌ يمنع الرؤية الصائبة.

ما حدث في الفاشر حدث جسيم لا يجوز أن يمر مرور العابرين، فله تداعيات سياسية وإنسانية واستراتيجية بالغة. وينبغي أن يكون محطة مراجعة شاملة، لا عسكريًا فقط، بل وطنيًا وسياسيًا، وأن يشكّل منطلقًا لتحوّلٍ حقيقي في مسار التعاطي مع الحرب ومستقبل السودان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

14 + 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى