د. صلاح دعاك
في صباحٍ هادئ من شوارع القاهرة، اهتزّ المجتمع السوداني بخبرٍ مؤلم؛ شابّ يطعن شقيقه حتى الموت إثر خلافٍ عائلي بسيط.
لحظة واحدة كانت كفيلة بأن تُفقد الأسرة ابنين معًا: أحدهما غادر الحياة غدرًا، والآخر ضاع خلف قضبان الندم والوجع.
لكن المأساة الحقيقية ليست في تلك الحادثة وحدها، بل فيما تكشفه من عمق الجرح النفسي الذي يعيشه السودانيون بعد سنوات الحرب والتشريد والانتهاكات.
لقد أرهقت الحربُ الإنسان قبل أن تُرهق البنيان.
فما بين الفقد والتهجير وانهيار مصادر الرزق وتبدّل الأدوار داخل الأسرة، وُلدت ضغوطٌ هائلة تراكمت في صمت حتى انفجرت في شكل عنفٍ منزلي، وجرائم غير مبررة، وانتحارات متزايدة.
هذه ليست ظواهر عابرة، بل دلائل على أزمة نفسية جماعية تحتاج إلى أن يُنظر إليها كقضية وطنية لا تقل خطورة عن الجوع والمرض.
لقد انشغلت معظم الجهود الإنسانية والإغاثية بتوفير الغذاء والمأوى، بينما بقي الجانب النفسي مظلومًا ومهمَلًا.
الناس يعيشون اليوم بأجسادٍ أنهكها التعب وقلوبٍ مثقلة بالخسارات، لكنّهم نادرًا ما يجدون من يصغي إلى وجعهم أو يقدّم لهم يد العون النفسي.
كثيرون يسيرون في الطرقات بملامح هادئة، لكن داخلهم انفجارٌ مؤجَّل ينتظر شرارة صغيرة ليشتعل.
ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من السجون، بل مزيدًا من المراكز النفسية والاجتماعية التي تفتح أبوابها لكل من أثقلت الحربُ روحه.
نحتاج إلى تدريب العاملين الصحيين والمجتمعيين على تقديم الإسعاف النفسي الأولي لمن فقدوا أحباءهم أو بيوتهم، وإلى برامج إعلامية تُعيد تعريف الناس بأهمية الرعاية النفسية وتحررهم من وصمة “الجنون” المرتبطة بطلب المساعدة.
المطلوب أيضًا أن تُدمج برامج الدعم النفسي والتعافي المجتمعي ضمن خطط الإغاثة وإعادة الإعمار، وأن تكون هناك مبادرات تربط بين المدارس والمجتمع المحلي لبث ثقافة التسامح وضبط الغضب ومعالجة الصدمات المبكرة.
فبعض الشرور لا يُطفأ بالقانون، بل بالفهم والرعاية.
إن بناء السلام لا يبدأ من توقيع الاتفاقيات فحسب ، بل من ترميم النفوس التي أنهكتها الخسارات.
قد تُعاد المدن كما كانت، لكنّ الوطن الحقيقي لا يُبنى إلا حين يستعيد الإنسان اتزانه الداخلي، وحين يجد من يسمع صمته قبل أن يتحوّل إلى مأساةٍ جديدة.
