أخر الأخبار

بين البندقية والضمير الوطني كيكل وبقال عند مفترق الوطن

بقلم: محمد مصطفى محمد صالح

في المشهد السوداني المتقلّب، برز اسمان شكّلا مسارين متناقضين في لحظة مفصلية من تاريخ البلاد كيكل الذي عاد إلى الصف الوطني، وبقال الذي ظلّ أسيرًا لخطاب الانقسام والكراهية. كلاهما خاض غمار الصراع، وكلاهما حاول أن يصنع لنفسه موقعًا مؤثرًا، لكن الفارق بينهما كان في البوصلة التي وجّهت بندقية كلٍّ منهما.

كيكل، الذي عُرف بثقله الاجتماعي والقبلي الوازن في مناطق وسط السودان، استطاع أن يجمع حوله رجالًا كثرًا بحكم مكانته وامتداد نفوذه التقليدي، وأن يؤسس قوة عسكرية ضخمة كان يمكن أن تتحول إلى لاعب مستقل في ميدان الصراع. غير أن الرجل، الذي خاض معارك ميدانية سابقة كضابط قتال ضد الجيش، لم يكن يحمل مشروعًا سياسيًا واضحًا ولا تصورًا أيديولوجيًا لما بعد البندقية. كانت تجربته عسكرية خالصة، انطلقت من فكرة الحماية والردع، لا من طموح لتغيير شكل الدولة.
وحين حمل كيكل السلاح لعدة أشهر ضد الدولة، سرعان ما أدرك حجم الانزلاق الذي تسببت فيه المليشيا، وحين رأى الانقسام الوطني يتحول إلى تهديد لوجود السودان ذاته، اتخذ قراره الحاسم بالعودة إلى حضن الجيش الوطني. لم يكن ذلك مجرد تبديل في التحالفات، بل تحول استراتيجي غيّر موازين القوى على الأرض. فقد ساهمت عودته في تسريع تحرير ولاية الجزيرة وشرق النيل، عبر انضمام قواته وتنسيقها مع الجيش النظامي، وهو ما أنهى عمليًا محاولات المليشيا لترسيخ وجودها في تلك المناطق بل واصبح بحارب بقواته الكبيره في اقاصي كردفان.
شأنه شأن كثير من القوات التي حاربت الجيش في البداية ثم عادت إلى صفه الوطني.
لقد أدرك كيكل أن بقاء الوطن أولى من بقاء الطموحات الفردية، وأن جيش الدولة هو الإطار الوحيد الذي يضمن وحدة البلاد واستقرارها، لا المليشيات ولا المساومات السياسية.
على الجانب الآخر، برز بقال بخطاب مختلف تمامًا، مشحون بنزعة عنصرية حادة ورؤية سياسية وإعلامية مسمومة. كان مشروعه يقوم على إذكاء الانقسام القبلي وإحياء الصراعات القديمة، مستغلًا المنابر الإعلامية وخطابات التحريض لتبرير وجود المليشيا وشرعنة جرائمها.
لكن مع تراجع المليشيا وفشلها المتكرر وانسحاباتها الانهزامية نحو أقصى الغرب، حاول بقال التماهي مع واقع جديد بالرجوع لحضن الوطن والجيش ويسعي للتخلص من واقعه القديم ، غير أن هذا التحول لم يكن نابعًا من إيمان بالدولة أو بالجيش، بل من شعور بالخذلان السياسي والفشل العسكري واهمال قيادة المليشيا للرجل الذي مارس اعلاما يدافع عن المليشيا الامر الذي ادخل بقال في احباط كبير.
هذا التراجع ماهو الا تراجع تكتيكي أكثر منه تحوّل مبدئي، هدفه إنقاذ الذات لا إنقاذ الوطن.
الشعب السوداني، الذي أنهكته خطابات الفتنة والانقسام، أصبح اليوم أكثر وعيًا بتمييز من حمل السلاح دفاعًا عن الأرض ومن حمله ضدها. يرون في كيكل نموذجًا لرجلٍ أدرك أن القوة بلا مشروع وطني تتحول إلى عبء، فاختار أن يصحح مساره ويضع بندقيته في الاتجاه الصحيح.
وفي المقابل، ينظر الناس إلى بقال كرمزٍ لفشل النخبة الميليشياوية التي حاولت أن تحكم بالعنف والكراهية، وانتهت إلى العزلة وفقدان الثقة.
في النهاية، ما بين كيكل وبقال تقف البلاد عند مفترق تاريخي حاسم: من اختار الجيش اختار الدولة، ومن ظلّ يبرر للمليشيا اختار الفوضى. فالتاريخ لا يرحم، والشعب الذي ذاق مرارة الدم والخداع يدرك أن الولاء للوطن لا يُقاس بالشعارات، بل بالموقف حين تكون البنادق على المحك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

ستة عشر − 1 =

زر الذهاب إلى الأعلى