لم يكن السفير الدكتور علي يوسف يومًا رجلًا عابرًا في دهاليز الدبلوماسية السودانية، ولا موظفًا بيروقراطيًا ينتظر التوجيهات، بل ظل طوال مسيرته أحد أكثر الدبلوماسيين وعيًا وحضورًا وتحليلاً لمآلات السياسة الإقليمية والدولية، سواء داخل المنصب أو بعده. عرفته شخصيًا بعد تقاعده محللًا استراتيجيًا رصينًا، حاضرًا بعقله الهادئ ورؤيته المتزنة في منابر الفكر ومنصات العصف الذهني، حيث كان يقرأ المشهد بعيون رجل دولة لا بمنظار المصلحة أو الرغبة في الظهور. لذلك، حين شبهته قبل تعيينه وزيرًا بـ «كسنجر السودان»، لم يكن ذلك من فراغ، بل من واقع ما لمسته فيه من رؤية متكاملة ومنهج تفكيري استراتيجي يجمع بين التجربة والخبرة، والحكمة والجرأة.
غير أن حديثه الأخير في قناة الجزيرة أثار موجة من الانتقاد الهتافي غير المنطقي، فبدلًا من التأمل في ما قاله انشغل البعض بـ كيف قاله، وانتقدوا نبرته وطريقته، بينما جوهر حديثه كان يستحق الوقوف عنده. والأسوأ أن بعض الأصوات ذهبت إلى القول إنه كان عليه أن “يصمت لعامين على الأقل بعد تركه المنصب”، وكأنّ الصمت فضيلة في زمن الحرب، وكأنّ المنصب أسمى من الوطن الذي يتداعى وينزف .
هذا التناول السطحي لا يُنصف الرجل ولا يخدم الوطن، لأنّ من يعرف علي يوسف عن قرب يدرك أنه لا يتحدث لمناكفة أو استعراض، بل بدافعٍ وطني خالص، وبمنطق رجلٍ يدرك أن إنقاذ السودان يبدأ من الصدق والمصارحة لا من التبرير أو المجاملة. فهو من أوائل من نادوا بوقف الحرب منذ يومها الثاني؛ ففي 17 أبريل 2023م، وبعد يومين فقط من اندلاع القتال، خرج عبر قناة الجزيرة :
> محذرًا من انهيار الدولة، داعيًا إلى وقف القتال فورًا وحماية المدنيين، ومؤكدًا أن استمرار الحرب لن يؤدي إلا إلى تدمير السودان وتقويض مؤسساته”.
في الحقيقة، ما قاله الرجل في مقابلته الأخيرة عن الرباعية لم يكن خروجًا عن الخط الرسمي، بل تعبيرًا صريحًا وواضحًا لما ورد في البيان الصادر عن إعلام مجلس السيادة، ولكن بلغة مباشرة بلا تورية. فبينما تحدث البيان بدبلوماسية عن دعم جهود الرباعية “لإنهاء التمرد”، قالها السفير علي يوسف بلا مواربة:
> «لا مكان ولا وجود للدعم السريع في مستقبل السودان».
والفرق بين العبارتين ليس في المضمون، بل في الصراحة؛ فالرجل تحدث بعقلية الدبلوماسي الذي تحرر من قيود المنصب، وبضمير الوطني الذي يرى أن واجبه الآن أن يُوضح ما يُقال عادة بين السطور. لقد أراد أن يُعيد التذكير بأن الرباعية ليست منصة لتقنين التمرد أو منحه شرعية سياسية، بل إطار إقليمي لإنهائه وإعادة السودان إلى مسار الدولة الواحدة القادرة، لا الدولة المزدوجة التي تتقاسمها البنادق والولاءات. وبذلك، كان حديثه توضيحًا لا تمردًا، وتصحيحًا لا تحديًا.
أما موقعه في المشهد الراهن، فقد صار انعكاسًا لتناقضات الساحة السودانية نفسها؛ فبين من يحاول تحميله ما لا يحتمل، ومن يقرأ مواقفه بانتقائية تخدم أجندته الخاصة، يظلّ الرجل ثابتًا في مساحة صعبة بين التحليل المسؤول والموقف المبدئي. بعض القوى السياسية، التي لا تملك شجاعة قول الحقيقة، وجدت في تصريحاته فرصة للهروب من مسؤوليتها التاريخية، فصوّرته وكأنه طرف في صراع لم يكن يومًا طرفًا فيه. بينما الحقيقة أن حديثه لم يكن سوى تلخيص واقعي لما يجري، بلغة العقل لا العاطفة، وبلسان رجل جرّب المسؤولية وعرف ثقل القرار وأثمانه.
كما كتبنا مرارًا وتكرارًا، أنّ أزمة السياسة الخارجية لا تكمن في الأشخاص أو الأفراد بقدر ما تكمن في غياب التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى. فالسياسة الخارجية للسودان غالبًا ما تعمل بنظام “رزق اليوم باليوم”، حسب توصيف السيد نائب رئيس المجلس السيادي، مالك عقار، وهو ما يجعل أي وزير مهما كانت خبرته، بما في ذلك السفير علي يوسف، يعمل في بيئة مقيدة بالقرارات الآنية والتدخلات المتقاطعة، ويضطر للتعامل مع ملفات معقدة ضمن هذا الواقع. وفي هذا السياق، يُصبح موقف علي يوسف، سواء في المنصب أو بعده، مؤشرًا على عمق معرفته واستراتيجيته، لأنه يعمل ضمن منظومة محدودة الصلاحيات لكنه يلتزم بالمبدأ الوطني، ويحاول إعادة التوازن بين الرؤية الاستراتيجية والممارسة اليومية، بعيدًا عن خطاب الهتافات أو النقد الشخصي.
في جوهر حديثه الأخير، لم يكن الرجل يقدّم خطابًا سياسيًا تقليديًا بقدر ما كان يُوجّه نداء إنقاذ وطني صريحًا، يضع النقاط على الحروف. فقد أراد أن يقول إن السودان لم يعد يحتمل مزيدًا من المزايدات والشعارات، وإن استمرار الحرب ليس انتصارًا لأحد، بل خسارة متبادلة تنسف فكرة الدولة ذاتها. تحدّث بعقل رجل الدولة الذي يرى الصورة كاملة، لا بعين المنتصر المؤقت ولا المهزوم المكسور، بل بعين من يقرأ الخرائط ويتتبع مؤشرات التفكك والانهيار.
خـلاصــة القــول ومنتهــاه
أنّ ما قاله السفير علي يوسف لم يكن خروجًا عن الصف، بل عودة إلى جادة العقل وسط فوضى العواطف وضجيج الحرب. لم يبدّل موقفه، بل ثبّت بوصلة المبدأ نحو الوطن، مؤمنًا بأنّ الحرب لا تُبقي للوطن روحًا ولا هيبة. حديثه لم يكن ترفًا سياسيًا ولا استعراضًا إعلاميًا، بل نداء ضمير من رجلٍ أدرك أن الصمت في مثل هذه اللحظات خيانة للوعي الوطني، وأن واجب الدبلوماسي الحقيقي لا ينتهي بخروجه من الوزارة، بل يبدأ حين يرى الوطن في مفترق الطرق. وهكذا يظلّ علي يوسف — بوعيه العميق وقراءته الاستراتيجية المتوازنة — واحدًا من أندر الأصوات التي تجرؤ على قول الحقيقة حين يختار الآخرون الصمت، لأنّ الوطن لا يحتمل مجاملات جديدة.