بقلم : عمار العركي
حين كتبنا مقال بالعنوان أعلاه ، في الثالث من أغسطس الماضي، أكدنا بوضوح أن أديس أبابا والاتحاد الإفريقي يجب أن يكونا أولى وجهات رئيس الوزراء الخارجية. اليوم، وبعد أن تعثرت زيارة القاهرة، وتحوّلت زيارة الرياض إلى صفعة دبلوماسية قاسية، تبرز صحة تلك الرؤية بجلاء. فالمحيط الإفريقي كان قد اقترب كثيراً من التعاطي الإيجابي مع السودان، والزيارة كانت ستتوج ذلك الزخم وتدفعه نحو قرارات ومواقف حاسمة لصالح السودان. تجاهل هذه البوابة أضاع فرصة استراتيجية ثمينة، وترك الساحة لمناورات إقليمية لا تخدم المصلحة الوطنية.
*_أديس أبابا أولاً.. لا مجاملة بل مصلحة وطنية:_*
* لطالما دافعنا استراتيجياً عن أولوية أن تكون العاصمة الإثيوبية أديس أبابا هي أول وجهة خارجية لرئيس الوزراء المدني، لعدة اعتبارات موضوعية تتصل بملف عضوية السودان المجمدة في الاتحاد الإفريقي، وبعلاقات السودان بالقارة، وبترتيب أوراق الدعم الدولي والإقليمي.
* لاحقاً، أثبتت المعطيات الأخيرة صواب هذا التوجه، خاصةً في ظل مخرجات زيارة مبعوث رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي “بلعيش” إلى السودان، وصدور بيان الاتحاد الإفريقي بنبرة منفتحة مشروطة بوجود قيادة مدنية، وما رشح عن تحركات إثيوبية عبر قنوات أمنية ودبلوماسية تعكس اهتماماً بالمشهد في السودان. تزايد دعم عدد من الدول الإفريقية لمواقف الحكومة السودانية مقابل رفض واسع لحكومة الميليشيات الموازية، وتصاعد الدعوات القارية نحو إعادة عضوية السودان بعد تعيين رئيس وزراء مدني.
* ليس هذا فحسب، بل إن هناك تراكمًا إيجابيًا لجهود وزارة الخارجية السودانية في الأشهر الماضية، سواء عبر اللقاءات والبيانات، أو من خلال تنسيق غير مباشر مع دول مؤثرة في الاتحاد. إلا أن هذا المسار بلغ نقطة تتطلب تفعيل “الدبلوماسية الرئاسية” عبر زيارة مباشرة لرئيس الوزراء إلى مقر الاتحاد في أديس أبابا، لترسيخ هذه المكتسبات وتأكيد التوجه السياسي للحكومة.
* الزيارة المرتقبة إذًا ستكون تتويجًا سياسيًا وتحصينًا دبلوماسيًا لخطاب السودان القاري، وفرصة لجني ثمار الجهود السابقة. والأهم من ذلك أن الاتحاد الإفريقي – ومعه العواصم الإفريقية المعنية – يترقب بتمعّن أولويات رئيس الوزراء بوصفه أول رئيس حكومة مدنية منذ اندلاع الحرب، وهو شرط محوري أشار إليه الاتحاد مرارًا لتسريع استعادة السودان لعضويته.
* أي تأخر أو تجاوز لهذه البوابة قد يُفهم إفريقياً على أنه تردد في الالتزام بالمحور القاري، أو استجابة لضغوط لا تخدم مصلحة السودان في هذه المرحلة الدقيقة.
*_القاهرة الشريك الاستراتيجي.. والداعم للمؤسسات_ :*
* في هذا السياق، لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يُفهم تقديم أديس أبابا على القاهرة كتقليل من شأن الأخيرة. فمصر كانت وما زالت الحليف الأكثر ثباتًا في موقفه من الأزمة السودانية. فقد أصرت منذ اللحظة الأولى على: احترام السيادة السودانية، الحفاظ على مؤسسات الدولة، رفض أي إقصاء أو تهميش للقوات المسلحة باعتبارها مؤسسة وطنية قائمة وشرعية. هذا الموقف الثابت عبّرت عنه القاهرة صراحة داخل إطار “الرباعية”، وتمسكت به رغم اختلاف بعض المواقف الإقليمية.
* ومع ذلك، فإن الحساسية بين القاهرة وأديس أبابا في ملفات أخرى قد تؤدي إلى سوء تقدير لأي تقارب سوداني-إثيوبي. وهنا تبرز أهمية التأكيد على أن زيارة أديس أبابا لا تتعارض مع المصالح المصرية، بل تدعم خطّ القاهرة في السودان، وتُعزّز وجود شريك شرعي موثوق في الخرطوم، في مواجهة القوى الموازية الداعمة للفوضى.
* وعلى القاهرة أن تتفهّم أن انفتاح السودان على الاتحاد الإفريقي يصب في خدمة رؤيتها الاستراتيجية، ويقوّي من موقف الحكومة المدنية التي تحظى بدعم القاهرة، بدلاً من ترك الساحة خالية للمناورات الداعمة للانقسام.
*_خلاصة القول ومنتهاه:_*
* ليس ثمة تعارض بين تقديم أديس والانفتاح على القاهرة، بل إن الترتيب الذكي للزيارات يعكس استقلالية القرار السوداني، ويعيد تموضع الخرطوم كدولة ذات أولويات مدروسة، لا أسيرة للمجاملات أو العادات الدبلوماسية. زيارة أديس أبابا – إن أُقرّت – لن تكون انحيازًا ضد أحد، بل انحيازًا خالصًا للمصلحة السودانية العليا ولشرعيته، ولموقعه داخل القارة الإفريقية، ولإطلاق دعم لا يمكن تأمينه إلا من بوابة الاتحاد الإفريقي.
* وفي لحظة إعادة التأسيس هذه، فإن السودان يحتاج إلى دبلوماسية واعية ومُدركة وجريئة، تُدار من منطلق السيادة لا التبعية، ومن منظور المصلحة لا العاطفة.
* واليوم، فإن حصاد القاهرة والرياض يثبت بالملموس أن ما طرحناه لم يكن ترفاً تحليلياً، بل قراءة واقعية تستند إلى المصلحة القومية الخالصة، وأن إعادة البوصلة نحو أديس أبابا والاتحاد الإفريقي لم تعد خياراً بل ضرورة وطنية عاجلة.