امل ابو القاسم تكتب : تفعيل الأمن الاقتصادي.. ضرورة وطنية عاجلة

لم يعد الحديث عن الفساد في السودان مجرّد توصيف صحفي أو إشاعة معارضة، بل بات واقعًا ماثلاً يشهد به كبار المسؤولين أنفسهم، وعلى رأسهم رئيس مجلس السيادة الذي أقرّ علنًا وقد ازكمت رائحته الأنوف. هذا الواقع المؤلم يضع البلاد أمام تحدٍّ حقيقي، لا يقل خطورة عن المعركة العسكرية الدائرة، لأن الفساد يلتهم ما تبقى من موارد الدولة ويقوّض أي أمل في التعافي.

من هنا تبرز الحاجة الماسّة إلى عودة جهاز الأمن الاقتصادي بكل قوته وصلاحياته أو منح صلاحيات واسعة ان جاز التعبير، لا بالإسم بل كذراع فاعل، متابع، ورادع، كما كان في سنوات سابقة حين فرض قبضته المحكمة على الأسواق وكبح جشع المضاربين والمهربين، وساهم بشكل مباشر في استقرار سعر الصرف وكبح جماح السوق الموازي.

لقد خاض جهاز المخابرات العامة المعركة جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة في الميدان، وكان له القدح المعلى في كشف الكثير من الخلايا والتجاوزات التي غذّت الحرب. غير أنّ بعض ضعاف النفوس استغلوا انشغال الدولة بمعركتها العسكرية، ليعيثوا فسادًا في مؤسسات حيوية: تهريب ذهب عبر المنافذ، تلاعب في تجارة الدقيق والوقود، مضاربات كارثية في العملة الصعبة، فضلا عن مستحدثات يشيب من هول فظاظتها الولدان. هذه ليست استثناءات فردية، بل وقائع تؤكدها تقارير صحفية وتحقيقات ميدانية يندى لها الجبين، وهي تتحدث عن أرقام بعشرات الترليونات تُنهب من جسد الدولة المنهك.

وإذا كان الدولار قد تجاوز كل الخطوط الحمراء مؤخرًا، فإن أحد أهم الأسباب هو غياب الرقابة الصارمة التي اشتهر بها الأمن الاقتصادي، والذي كان يُمسك بخيوط السوق ويفضح كل من يعبث بالعملة الوطنية أو يخزّن السلع الاستراتيجية وغيره.

لذلك، فإن المطالبة اليوم ليست بإنشاء جهاز جديد، ولا بانتظار “الإصلاح الإداري البطئ، بل بـ تفعيل الأمن الاقتصادي الراهن وتوسيعه وضخ دماء جديدة فيه، ليعمل بقوة أكبر من أي وقت مضى. نحن بحاجة إلى أن يستعيد الجهاز مكانته وهيبته، وأن يُمنح التفويض الكامل لملاحقة الفاسدين، وضبط الأسواق، وكسر ظهر شبكات التهريب، لأنه خط الدفاع الأول عن معيشة المواطن واقتصاد الدولة.

إن المعركة ضد الفساد لا تقل أهمية عن المعركة ضد التمرد، بل هي وجه آخر لها. فالهزيمة في الاقتصاد تعني خسارة الجبهة الداخلية، بينما النصر فيها يعزز صمود الجبهة العسكرية والسياسية معًا. ولهذا، فإن عودة الأمن الاقتصادي بقوة ليست خيارًا ترفيهيًا، بل ضرورة وطنية عاجلة، وصرخة إنذار يجب أن تُسمع الآن قبل الغد.

فلنُفعَّل جهاز الأمن الاقتصادي، ولنمنحه كامل الدعم والصلاحيات، وليقف الشعب كله خلفه. فالمعركة ضد الفساد معركة وجود لا تحتمل التراخي ولا التأجيل.

Exit mobile version