اليوم وبعد حربٍ طاحنة أكلت الأخضر واليابس، وتشرد بسببها الملايين، ما زال الأمل معقودًا على عودة أبناء السودان من المنافي والشتات، ليشاركوا في تعمير وطنهم وبناء ما دمرته الحرب. كثيرون ينتظرون لحظة العودة، يحنّون إلى بيوتهم وأسواقهم وطرقاتهم التي تركوها مجبرين، لكنهم في ذات اللحظة يتساءلون: أي بيئة سنجدها عند العودة؟
قبل أيام فرضت حكومة ولاية الخرطوم – عبر جهاز تطوير وتفصيل الموارد فرع محلية كرري – رسوماً مالية باهظة على أصحاب المحلات التجارية بلغت (3 ملايين و600 ألف جنيه سوداني)، وأعطتهم مهلة لا تتجاوز 72 ساعة للسداد، وإلا فالنيابة في انتظارهم. هكذا ببساطة، في بلد أنهكته الحرب، وسط أوضاع اقتصادية خانقة، وموارد مدمرة، وسوق بالكاد بدأ يفتح عينيه من جديد.
فهل هذا توقيت مناسب لمثل هذه الجبايات؟ هل هكذا نستقبل من قرر أن يبدأ من الصفر، وفتح محلاً صغيرًا ليكافح من جديد؟
إحدى السيدات، وهي رائدة أعمال عادت من الخارج، روت قصتها المؤلمة: “في مصر كنت أدفع ضرائب سنوية وفق إجراءات واضحة ومرتبة، أما هنا فبعد يوم واحد فقط من افتتاح محلي الجديد فُرضت عليّ رسوم ضخمة لم أتوقعها، دون أي تفويض رسمي أو مهلة معقولة”. كلماتها تختصر معاناة كل عائد يحلم بتراب الوطن ثم يفاجأ بجدارٍ من العراقيل.
أليس من حق المواطن أن يجد التشجيع بدلاً من الإحباط؟ أليس من واجب الحكومة أن تقدّم الحوافز والتسهيلات بدلاً من إرهاق العائدين؟ كيف لهم أن يعودوا لبلدهم ويستثمروا فيها وهم يُستقبلون بالعقوبات المالية والجبرية؟
ثم نتساءل: من أين للتاجر أو المواطن البسيط أن يوفر مبلغًا ضخمًا خلال ثلاثة أيام؟ ما هو رأس ماله أصلاً؟ وكيف سيربح إذا استنزفته الرسوم قبل أن يبدأ؟ وهل يعقل أن نبني السودان المنهك من جيب المواطن المثقل وحده؟
إن مثل هذه القرارات لا تبني وطنًا، بل تزرع الإحباط، وتبعث برسالة واضحة لكل من يفكر بالعودة: “لا تأتِ، فبيئتك هنا طاردة لا جاذبة”. وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن نخسر أبناءنا الذين كنا نرجوهم لبناء الوطن من جديد.
إننا نناشد والي الخرطوم، وكل القيادات العليا في الدولة، أن يعيدوا النظر في مثل هذه الإجراءات. فاليوم المعركة الحقيقية ليست مع المواطن ولا في تحصيل أموال عاجلة، بل في استعادة الثقة، وفي إعادة بناء جسور الأمل. فالسودان لا يبنيه إلا أبناؤه، ولن يعود أبناؤه إلا إذا شعروا أن بلدهم يفتح لهم ذراعيه لا أن يغلقها بالجبايات.
فلنترك الجباية الآن، ولنرفع شعار “مرحبا بكم” بدلًا من “ادفع أولًا”. فالأوطان لا تُبنى بالإكراه، وإنما بالعطاء، وبثقة متبادلة بين المواطن والدولة.
وإذا استقبلنا العائدين بهذه القسوة، فبأي وجه نرجو منهم أن يعودوا؟