أخر الأخبار

امل ابو القاسم تكتب : زيارة القاهرة.. لحظة فارقة في المشهد السوداني والعربي

حطّت طائرة رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس رحالها في مطار القاهرة، تسبقها كثير من التأويلات، وتلحقها كثير من التوقعات. كان الاستقبال الرسمي على أعلى المستويات، وعلى رأس المستقبلين رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي. وفي ذهني سؤال واحد: كيف استقبل خصوم الداخل والخارج هذا المشهد؟ أولئك الذين ظلوا يروّجون لغير ما حدث، خاصة بعد تأجيل الزيارة من الإثنين إلى الخميس، وهو ما ثبت أنه لترتيبات إضافية من الدولة المضيفة لإنجاح الزيارة، وليس كما أراد المتربصون تصويره.

استحضرتُ في تلك اللحظة موقفي الأول حين رُشّح اسم الدكتور إدريس لرئاسة الوزراء. لم يكن تحفظي على شخصه، بل على اسمٍ ظل يُطرح باستمرار كلما تم الحديث عن التكليف، في وقتٍ بدا فيه وكأن لا أحد من داخل المشهد السوداني مؤهلٌ لتولي المنصب. ومع توالي تحركاته بعد التعيين، وازدياد انفتاحه على الإعلام والرأي العام، بدا لي أن وراء الاسم شخصية تمتلك من الجدية والحضور والانشغال الحقيقي ما يستحق إعادة التقدير.

المفارقة أن الزيارة، التي اعتبرها البعض شكلية، تحولت إلى نقطة تحوّل، سياسيًا وإعلاميًا. فهي لم تكن بروتوكولًا عابرًا، بل انطوت على لقاءات رفيعة، وبيان مشترك أكّد عمق العلاقات، وعبّر عن تفاهمات تمسّ حياة السودانيين في الداخل والخارج.

لقاء رئيس الوزراء بالإعلاميين السودانيين في القاهرة، والذي جرى في منزل سعادة السفير الفريق أول مهندس عماد الدين عدوي، قدم إجابات صريحة على أسئلة لم تكن سهلة. وكما قال بعض الحاضرين: لم نغادر المكان وفي أنفسنا شيء. تحدث الرجل بثقة ووضوح، وأعلن بشريات مباشرة تمثلت في:

تسهيلات في إجراءات التأشيرة للمواطنين السودانيين في مصر.

حل مشكلات الطلاب السودانيين، وتيسيرات كبيرة لهم.

حل قضية الموقوفين السودانيين في السجون المصرية لأسباب هجرية، عبر ترحيلهم إلى السودان.

تسيير 500 حافلة للراغبين في العودة الطوعية.

تفاهمات مهمة بشأن المعابر والربط الكهربائي بين البلدين.

ليس ذلك فحسب، بل أعلن الدكتور إدريس أن الحكومة بصدد تنفيذ خطة شاملة لإعادة الإعمار، وأن الأولوية لإعمار ما دمرته الحرب، مشيرًا إلى أن مصفاة الجيلي وحدها تحتاج إلى 1.2 مليار دولار لإعادة تأهيلها بعد أن طالتها يد التخريب والنهب. أما مشروع الجزيرة، فستكون له زيارة خاصة في الأسبوع المقبل، في رسالة واضحة بأن الزراعة هي حجر الزاوية في مستقبل السودان.

ومن الملاحظ أن حديث رئيس الوزراء لم يكن إنشائيًا، بل زاخرًا بالمعلومات الدقيقة، والإحصائيات، والتقديرات الواقعية. قال إن الخرطوم بحاجة إلى إعادة تخطيط شامل، وأن الحياة تعود تدريجيًا إلى العاصمة، حيث تسير الأمور في بحري بنسبة 80%، وأم درمان “أكثر إضاءة من باريس”. أما الرحلات الجوية، فستعود إلى مطار الخرطوم خلال شهرين، ومؤسسات الحكومة ستنتقل إلى العاصمة في أكتوبر.

سياسيًا، بدا واضحًا أن الدكتور إدريس يتجه إلى تكريس سياسة استقلال القرار السوداني، حيث نفى وجود أي تفاوض مع دولة الإمارات، مشيرًا إلى تحركات دبلوماسية لإعادة السودان إلى موقعه الطبيعي في القارة الإفريقية، وهو ما أكد عليه وزير الدولة بالخارجية، مبشرًا ببيان قريب من مجلس السلم والأمن الإفريقي يعترف بحكومة “الأمل”.

لم يخلُ اللقاء من رسائل داخلية، فقد أقر رئيس الوزراء بصعوبة الأوضاع،
وأكد أن “الطابور الخامس” لا يزال متغلغلًا داخل أجهزة الدولة، وأنه يعمل أكثر من 22 ساعة يوميًا. وحين سُئل عن الجمع بين رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية، أقر بصراحة أن الاستمرار في ذلك الوضع غير ممكن.

اللقاء لم يكن ترفًا إعلاميًا، بل ممارسة ديمقراطية واستراتيجية تواصل ضرورية، تعكس فهمًا جديدًا لعلاقة السلطة بالإعلام ومع ذلك من الأهمية بمكان مخاطبة الإعلام المصري والدولي لتفكيك الصورة النمطية عن السودان، والعمل على تغيير الخطاب الخارجي الذي طالما رسخ مشاهد مختزلة ومشوشة عن شعب يُكابد لأجل بقاء الدولة. كذلك ليت أن يتبع هذه الجولة الرسمية لقاءات دورية تجمع القيادة التنفيذية بممثلي الإعلام والمجتمع المدني والخبراء، لصياغة مسار تشاوري يُعزز الثقة ويُحصّن القرارات الوطنية.

وأمام هذه الروح الجديدة في الخطاب السياسي، لا يسعنا إلا أن ندعو إلى تطويرها وتوسيعها، عبر تكرار مثل هذه اللقاءات في محطات خارجية أخرى، بدءًا من السعودية، التي لم يكن موقفها يومًا أقل دعمًا من مصر.

إننا أمام رئيس وزراء بدأ رحلته في ظروف مستحيلة، لكنه يحاول رسم الممكن في قلب المستحيل. ومن الإنصاف، إن كنا قد انتقدنا، أن نُشيد عندما نجد ما يستحق الشكر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة عشر + تسعة =

زر الذهاب إلى الأعلى