أخر الأخبار

الإنسان اولا : تأملات في جوهر العمل الانساني وتجارب الميدان

بقلم: د. صلاح دعاك

العمل في المنظمات الدولية والعمل الطوعي من أنبل الأعمال التي يمكن أن يعمل فيها الإنسان ويقضي فيها حياته، فهو فرصة حقيقية للعطاء والتأثير. وكثير من الناس يظنون أن العطاء يقتصر على المال، ولكن الحقيقة أن العطاء يمكن أن يكون من كل شيء. قد تعطي مالًا، وقد تعطي من قوتك، أو من وقتك، وقد يكون عطاؤك روحيًا أو معنويًا.
ومن روائع القرآن، أن الله سبحانه وتعالى أعطى نماذج للعطاء الجسدي، كما في قصة سيدنا موسى عليه السلام: “فسقى لهما ثم تولى إلى الظل، فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير”، وهذا نوع من العطاء الخالص. لم يكن يرجو من فعله شيئًا، ولم ينتظر ليتحدث مع الفتاتين أو ينظر لجمالهما كما يفعل بعض الشباب، بل تولّى إلى الظل، وهذا هو قمة الأدب والنية الخالصة.
ثم يأتي العطاء الروحي والمعنوي، كأن تبتسم في وجه أخيك فهي صدقة، أو تمسح على رأس يتيم فيشعر بالطمأنينة والمحبة. وهذه صور من العطاء قد لا تكلّفك شيئًا، لكنها تترك أثرًا كبيرًا. بل حتى أماطتك الأذى عن الطريق، مهما صغر، فيها أجر. ويمكن أن تعطي شِقَّ تمرة، وتكون بذلك قد قدمت ما استطعت، والعطاء بحد ذاته متعة، وقد توصل كثير من الباحثين إلى أن من أجمل أنواع المتعة، تلك التي تأتي من العطاء. ويمكن أن نقول – بل نعمم دون حرج – أن كل فرض كفاية هو عمل طوعي، كل ما تقوم به تجاه الآخر طواعية، وإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
ومن أقدم صور العمل الطوعي ما قام به قابيل تجاه أخيه هابيل، حين علمه الغراب أن يدفن سوءة أخيه. نعم، هو قتله، لكن فعلا خيرًا أيضًا حين لم يتركه للهوام، وعلمه الغراب ذلك. فهذا يمكن أن يكون بذرة العمل الطوعي في الإنسان.
غير أن هذا العمل الإنساني، رغم ما فيه من متعة ونُبل، إن لم يُقدَّم بالصورة الصحيحة ووفق ضوابطه، فإنه يصبح كمن يحرث في البحر. فله أُسس ومبادئ، هي بمثابة الإطار الأخلاقي والقيمي الذي يوجه سلوك المتطوعين والعاملين في المجال الإنساني، ويضمن أن تكون الجهود خالصة لخدمة الإنسان وكرامته، بعيدًا عن التحيز والمنفعة الذاتية والفساد.
وأول هذه المبادئ هي النية الخالصة، أن تقدم العمل لله، لا طمعًا في شهرة أو منصب. وقد لا يُذكر هذا المبدأ (النية) في البروتوكولات الدولية، لكنه أساس في ديننا، فنحن كمسلمين نبدأ بالنية، ونبتغي وجه الله في كل ما نعمل، لكي يتحول من عمل إنساني ونضيف له قيمة مضافة ويصبح عملًا صالحًا نؤجر عليه في الدنيا والآخرة.
ومن ثم تأتي الطوعية، بأن يكون العمل نابعًا من إرادة حرة، وأن يقدِّم المتطوع جهده بدافع الإيمان بالخير، لا بالإكراه أو الدافع المادي فقط.
يليه مبدأ الإنسانية، وهو أن تكون الغاية الأساسية من العمل هي حفظ كرامة الإنسان والتخفيف من معاناته، وبالتالي فإن أي شيء يمس هذه الكرامة يجب رفضه، سواء في نوع المساعدة أو طريقة تقديمها. بل يجب استشارة المستفيدين فيما يُقدّم إليهم، وأن تُمنح المساعدة لكل محتاج، بغض النظر عن هويته أو خلفيته، ما لم تكن هناك موانع أمنية تهدد حياة العاملين.
ثم نأتي إلى مبدأ عدم التحيز، وهو أن تُقدَّم المساعدة على أساس الحاجة فقط، دون تمييز في العرق أو الدين أو اللون أو الجنس أو الانتماء السياسي. فلا يجوز لمقدمي الخدمة في العمل الطوعي أن يُفرّقوا بين الناس لأي سبب.
ثم مبدأ الحياد، وهو الامتناع عن الانحياز لأي طرف في النزاعات، وأن يكون تدخل المنظمة للنجدة والمساعدة فقط، دون الخوض في التفاصيل السياسية أو أي أمر يخرج العمل الإنساني عن سياقه.
أما مبدأ الاستقلال، فهو أن تحافظ المؤسسة على استقلال قرارها وتمويلها، بعيدًا عن التأثيرات السياسية أو الاقتصادية. يجب أن يكون للمنظمة الحرية في تنفيذ أنشطتها دون أي إملاءات خارجية.
ومن المبادئ المهمة أيضًا مبدأ الشفافية والمساءلة، أي أن تعمل المنظمة بنزاهة، وتنفذ مشاريعها كما اتفق عليه في وثيقة المشروع مع الجهات المانحة والشركاء، مع احترام قرارات الدولة المضيفة وسياساتها، واحترام ثقة المجتمع في المؤسسة واحترام العاملين فيها.
ويجب أن تكون علاقة المنظمة بالمجتمعات التي تخدمها قائمة على الشراكة الحقيقية. فاستشارة المجتمع تُجنّب الكثير من الفشل والخسارة. واحترام ثقافة الناس وعاداتهم وتقاليدهم عنصر أساسي في نجاح المشاريع.
كذلك مبدأ العدالة والمساواة، فيجب الحرص على أن يحصل الجميع على فرص متكافئة في الاستفادة من الخدمات، والسعي لتصحيح الظلم الاجتماعي بقدر المستطاع.
ويُضاف إلى ذلك مبدأ الشراكة والتكامل، أي أن تتعاون المنظمة مع الفاعلين الإنسانيين والمجتمعيين والتنسيق معهم واحترامهم، وألا تعمل في عزلة. فالقوة في التآزر، لا في الانفراد.
ثم مبدأ احترام وكرامة المستفيدين، بالتعامل معهم بلطف وخصوصية، فهم أولى أولويات المؤسسة والهدف الأساسي الذي تعمل المنظمة من أجله.
وأخيرًا، مبدأ الاستدامة والتأثير، فلا يكفي تقديم حلول آنية، بل لا بد من تفكير طويل الأمد، وإنشاء مشاريع تنموية مستدامة، وبناء قدرات المجتمعات وتمكينها من الاعتماد على نفسها.
هذه المبادئ هي التي يُبنى عليها ويقوم العمل الإنساني، ويجب معرفتها وتطبيقها من قبل كل من يعمل في هذا المجال والحرص على فهمها. وأذكر أننا في عام 2012، وأنا أعمل مديرًا إقليميًا في الأردن لمنظمة بريطانية، كنت وقتها مسؤولًا عن عدد من الدول في الشرق الأوسط، بما فيها السودان. أبرمنا شراكة مع مفوضية العون الإنساني في السودان في ذلك الوقت لتنفيذ مشروع بدعم سويسري لبناء القدرات. فكانت شراكة ناجحة في وقتها، تم فيها تدريب عدد مقدّر من المنظمات الوطنية على مبادئ العمل الإنساني وإدارة المشاريع.
ولكن العمل الإنساني، رغم ما يبدو عليه من نظام وتنظيم وراحة أحيانًا للموظفين، إلا أن به من المخاطر ما قد يؤدي إلى الموت. وكم من الموظفين والمتطوعين قتلوا نتيجة لحوادث سير أثناء العمل، أو تم دهسهم حتى الموت أثناء التوزيع حيث اجتمع عليهم المستفيدون وعصروهم حتى الموت، أو تعرضوا لعمليات قتل مباشر من معتدين.
أذكر عندما كنت أعمل مديرًا لمشاريع الصحة في دارفور في عام 2004، في غرب دارفور مع إحدى المنظمات العالمية. رن هاتفي وكان المتصل صديقًا عزيزًا، يشغل وقتها منصب مدير في منظمة أمريكية. أبلغني بأنه سيحضر إلى الجنينة في مهمة تستغرق خمسة أيام لإجراء مسح للسوق وتوفر الغذاء لصالح برنامج الغذاء العالمي. طلبت منه أن ينزل معي في البيت الذي كنت أقيم فيه، فقبل الدعوة. وعند وصوله رحبنا به، وفي المساء اقترحت أن نذهب إلى جوار مستشفى الجنينة لنشرب حليب البقر الطازج، الذي كان يُعدّ في قدور مقننة، وكان المكان الوحيد الذي يمكن الذهاب إليه قبل بدء حظر التجول في التاسعة مساءً.
خرجنا بعد المغرب مباشرة، والمطر خفيف ورائحة الدعاش تعبق في الجو. ركبنا السيارة وكنا خمسة: اثنان في الأمام وثلاثة في المقعد الوسط، وتحركنا نحو مكان الحليب. وفي منتصف الطريق، الذي لا يبعد عن المنزل سوى كيلومترين تقريبًا، صرخ أحد الزملاء من المقعد الخلفي وقال: “هناك شخص يطلق علينا النار!” وفجأة تكسر زجاج السيارة، فتوقفت ورقدنا وأخفضنا رؤوسنا جميعًا إلى أسفل، والرصاص ينهمر. اخترقت إحدى الطلقات أسفل المنصة وأحدثت ثقبًا في الطبلون، واستقرت في الباب الأمامي، وكانت موجهة تمامًا نحو الضيف الذي رافقني. وتكسّر الزجاج الأمامي أيضًا.
وبعد أن توقف إطلاق النار، نزلنا جميعًا وكنا بخير، لكن السيارة كانت تنزف زيتًا وماءً ووقودًا. أصابت الطلقات الرديتر، وسبّبت شقوقًا في المحرك وثقوبًا في جسم السيارة. كان منظرًا مرعبًا، وسلمنا على بعض أننا خرجنا سالمين. نزلنا نتحسس أجسادنا، فإذا بنا جميعًا بخير. نظر الضيف إلى الجندي الذي أطلق النار، وكان عمره لا يتجاوز التاسعة عشرة، وتبدو بنيته أصغر من سنه. سأله: “لماذا فعلت هذا؟” فأجابه: “الآن وقت حظر التجول”. فنظرنا إلى الساعة، فوجدناها لم تتجاوز السابعة والنصف! وكانت هناك خيمة في قطعة أرض غير مبنية يبدو أنها ارتكاز، ويبدو أن المطر والظلام خدعاه، فظن أن الوقت تأخر. رجعنا إلى المنزل وتركنا الحليب، وحمدنا الله أن لم يُصب ضيفنا بمكروه، ولكن بقيت تلك الحادثة عالقة في الذاكرة.
أما ذلك الصديق الضيف، فقد أصبح بعد ذلك بروفيسورًا في الزراعة، وشغل منصب وزير، وهو اليوم رئيس لإحدى المنظمات العربية الكبرى. وعندما نلتقي، نسترجع تلك الذكريات بتأمل عميق.
وأيضًا لا أنسى المخاطر التي تعرضنا لها في مقديشو في 2011، حين نزلنا في فندق يُعتبر من الأفضل آنذاك، لحضور مؤتمر شاركت فيه منظمات عديدة لدعم العمل الإغاثي في الصومال. بعد ثلاثة أيام، بعد أن غادرنا إلى المطار، سمعنا أن شاحنة مليئة بالمتفجرات اقتحمت الفندق ودخلت في الصالة الرئيسية ودمّرته بالكامل. حمدنا الله أننا كنّا في المطار في طريق العودة.
بعيدًا عن المخاطر، لنجاح العمل الطوعي يجب التواصل مع المستفيدين، والتعرف على رغباتهم، واستشارتهم فيما يُقدَّم لهم. هذا يضمن النجاح في معظم الأحيان. فهناك أشياء ثقافية وتقاليد قد تعيق العمل وتهدر الجهد، لكن عندما يكون المجتمع المحلي شريكًا في المشروع، تضمن تبنيهم للمشروع واستمراريته ونجاحه.
فأذكر في أفغانستان، حفرت منظمة دورات مياه إسمنتية في أحد المخيمات، وبعد الانتهاء من المشروع، لم يستخدمها أحد. استغربنا، وسألنا، فجاء الرد من الأهالي: “الحمامات تتجه نحو القبلة”، وهذا مخالف لمعتقدهم. فاضطرت المنظمة لإعادة البناء، وتكبّدت خسائر كبيرة.
وفي إحدى قرى السودان، عملت إحدى المنظمات على تدريب عدد من القابلات، وبعد إرسالهن إلى قراهن، رفضت النساء الذهاب إليهن. وواصلن الولادة عند الداية التقليدية. وعندما استفسرنا عن السبب؟ قالوا: إن القابلة مدربة وهذا شيء جيد، ولكن في عاداتهم أن المرأة التي لم تتزوج ولم تنجب لا يُسمح لها بتوليد النساء. وكانت القابلة صغيرة وعزباء لم تتزوج بعد. وفي ثقافة المجتمع، يجب أن تكون القابلة متزوجة و”جربت الولادة” في نفسها، حتى تُمنح الثقة بممارسة القِبالة.
وفي إحدى الدول الآسيوية، في بنغلادش، حيث كنت مسؤولًا عن الهند وباكستان وبنغلادش، تم تنفيذ برنامج دعم الأسر الفقيرة بالمشاريع المدرة للدخل. فأصرت المنظمة أن تُملّك النساء فقط المشاريع وتُبعد الرجال، لأن في نظرها أن الرجال يسيطرون على المال، وربما يصرفون المال في أغراض أخرى. رغم حرصي في ذلك الوقت أن يُملَّك المشروع للأسرة، للرجل والمرأة معًا، وإيجاد طريقة لتنمية الأسرة، لكن أصر المسؤول المباشر عن المشروع. وبعد سنة من المشروع، نجحت بعض النساء في المشاريع بصورة كبيرة، لكن أكثر من نصفهن حصلت لهن إشكالات مع أزواجهن أدت إلى الطلاق. فنجح المشروع، وفشل مشروع الأسرة.
العمل الإنساني إذًا، رغم ما يبدو عليه من سهولة، هو في الحقيقة مجال معقد، يحتاج إلى خبرة، وفهم عميق للمجتمعات، وثقافتها، ونُظُمها، وعاداتها. إن أردت النجاح، فعليك أن تدخل إلى المجتمعات من أبوابها: من خلال عمدها، وشيوخها، ونُظارها، وأن تحترم أعرافها، وتلتزم بسياسات الدولة المضيفة. فالعمل الإنساني ليس شعارات، بل مزيج من النية، والعلم، والفهم، والاحترام.
واليوم، السودان أحوج ما يكون إلى عمل منظمات تساعد في البناء وإعادة التعمير والتنمية في شتى المجالات، على أن تُطبّق مبادئ العمل الإنساني بالصورة المثلى، التي تضع الإنسان في قلب الاهتمام.
ونسأل الله أن يرفع عن السودان البلاء، ويخفف آثار الحرب، ويمنّ على أهله بالطمأنينة، ويكتب لأبنائه الخير في مساعيهم الصادقة.
اللهم اجعل عونك سندًا لمن أراد النفع، ويسّر سُبل الخير، وبارك في كل يدٍ تمتد لمواساة المنكوب، وإغاثة الملهوف، وبناء مستقبل كريم لهذا الوطن الجريح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

خمسة عشر + تسعة عشر =

زر الذهاب إلى الأعلى